ليون الأفريقي في باريس مسرحية حول صراع الهويات بقلم: عمار المأمون

  • 12/17/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

وجدي معوض يختبر مفاهيم الانتماء واللغة ويذهب إلى جغرافيات العدوّ لفهم الصراع في الشرق الأوسط بين لبنان وإسرائيل.العرب عمار المأمون [نُشر في 2017/12/17، العدد: 10845، ص(14)]شخصيات المسرحية لم تكن متماسكة تشهد خشبة مسرح الكولين في العاصمة الفرنسيّة باريس عرض “كل الطيور” من تأليف وإخراج وجدي معوض، الذي يعمل فيه مع ممثلين من جنسيات مختلفة ليحكي لنا بالعربية والعبرية والألمانيّة والإنكليزيّة قصة حب بين شاب ألمانيّ من أصول يهوديّة وفتاة أميركيّة من أصول عربيّة، بالتوازي مع حكاية الحسن الوزان أو ليون الأفريقيّ، الشخصية إشكالية التاريخ، لنقف أمام نماذج متعددة تعكس صراع الهويات وجدوى الانتماء، فمعوض يتجرأ للمرة الأولى على الذهاب إلى جغرافيات العدوّ لفهم الصراع في الشرق الأوسط بين لبنان وإسرائيل وذلك عبر حكاية أسرة إسرائيليّة وعلاقتها مع الآخر العربيّ.العرض يتبنى السردية الأوروبية فيما يتعلق بالعربي واليهودي وصراعات الهوية التي يعيشها كل منهم منفرداً أو بين بعضهم، لتبدو بعض الشخصيات غير متماسكة كوحيدة والوزان العرض الذي يستمر لأربع ساعات يحكي عن وحيدة التي تجهز رسالة دكتوراه عن الحسن الوزان وتقع في حب إيتان، ثم يقرر الاثنان الذهاب إلى إسرائيل لزيارة جدة إيتان الذي اكتشف سابقاً أن والده دافيد ليس من يدّعيه، وإثر رفض الجدة الحديث معهما يقرران العبور نحو الأردن لإكمال رحلتهما في المنطقة العربيّة، لكن الباص الذي يقلهما يتعرض لانفجار يؤدي إلى دخول إيتان في غيبوبة، بعدها تأتي أسرة إيتان إلى إسرائيل للاطمئنان على حاله وصبّ جام غضبها على وحيدة التي لم يكونوا راضين عن علاقتها بابنهم، تتطور بعدها سلسلة الأحداث لنكتشف هوية دافيد الحقيقية ولتُطرح التساؤلات عن الصراع العربي-الإسرائيلي والأزمات المرتبطة بذوي الهويات المختلطة وإشكاليّة أن يجد الفرد نفسه عدوّ ذاته. أوّل ما يشد الانتباه في العرض هي مساحات اللعب التي تتغير على الخشبة عبر مجموعة من الجدران التي تشكل فضاءات معادية للهوية العربيّة أو لا تحضر فيها بصورة “طبيعيّة”، كمكتبة في نيويورك ومنزل يهوديّ في برلين ثم نقطة حدوديّة يحضر فيها الجدار الفاصل في إسرائيل التي تحضر فيها سياسة العداوة تجاه العربي بأقصاها حتى لو لم يكن “عربياً” بصورة رسميّة كحالة وحيدة التي تمتلك جواز سفر أميركيّ، ضمن هذه الفضاءات يحضر العربي في حالات المواجهة بوصفه هستيرياً وهذيانياً ومهدداً في أيّ لحظة بأن يعود إلى “عربيته” أو ينهار، كحالة وحيدة ودافيد الذي يكتشف أنه فلسطيني بعكس ما ظنه طول حياته.مشاهد من العرض الذي وظفه مخرجه اللبناني ليثير جملة من القضايا منها الصراع العربي الإسرائيلي الدمغة التراجيدية التي تحكم سلوك العربي واحتمالات انهياره تحرك الشخصيات في النص وتدفع الأحداث، فهي توظيف لمفهوم العيب التراجيدي الحتمي الذي لا يمكن الفكاك منه بوصفه دافعاً للدراما، وكأن الهوية مفهوم بيولوجيّ يمكن أن يُفعّل في لحظات المواجهة، بعكس مفهوم المساواة الجينيّة بين الجميع كمفهوم لتجاوز الانتماءات والهويات المكتسبة والطبيعيّة والتي كانت محركاً لرحلة إيتان التي كشفت حقيقة والده وجعلته يخسر كل شيء حتى حياته. تروي وحيدة حكاية عن الحسن الوزان وكيف اختفى ضمن أشكال التمثيل الأوروبيّة في القرن السادس عشر، بالمقارنة مع الفيل الأبيض الذي حصل عليه البابا ليون كهديّة من آسيا ويحضر في لوحات تلك الفترة ككائن سريك غرائبيّ حفظه التاريخ، وبالنظر إلى العرض كأحد أشكال التمثيل المعاصرة نرى أن حضور الوزان فيه غرائبي وإكزوتيكي وعرفانيّ، هو محرك لا عقلاني لتصرفات وحيدة، بعكس إيتان الذي يدفعه العلم الجيني لمغادرة نيويورك وزيارة إسرائيل، فحضور الوزان الآن يمثل الشرق السحريّ بوصفه تمثيلاً شعرياً للحقيقة وعبور الهويات بما يخدم مصلحته، هو الصيغة المثالية التي تتجاوز الجيني والحتمي عبر تحوله إلى ليون الأفريقي، وانعكاساً لميوعة مفهوم الهويّة الذي يمكن أن يتكيف الإنسان عبره مع ما حوله ومع ما يواجهه من صعوبات، بعكس وحيدة ودافيد اللذين يتعاملان مع الهوية كحتمية طبيعية لا يمكن الفكاك منها، هما كأوديب الذي لا يستطيع الفكاك من قدره. يتبنى العرض السردية الأوروبية فيما يتعلق بالعربي واليهودي وصراعات الهوية التي يعيشها كل منهم منفرداً أو بين بعضهم، لتبدو بعض الشخصيات غير متماسكة كوحيدة والوزان، إذ يمكن الاستغناء عن حكاية الوزان كلياً دون التأثير في سير الحكاية وخصوصاً أن مشكلة الهوية التي يمر بها لا تشابه تلك التي تمر بها الشخصيات العربيّة، أما الشخصيات اليهوديّة فتعاني من الذنب التاريخي المرتبط بهويتهم والذي يؤثر على مواقفهم ورغباتهم الشخصيّة والحميميّة إلى جانب علاقتهم الإشكاليّة مع إسرائيل بوصفها البنية السياسية التي تدّعي تمثيل اليهود، وهذا ما يتضح في المواقف المتفاوتة من مجزرة صبرا وشاتيلا سواء من قبل القاطنين في إسرائيل كـ”مواطنين” مثل والدة دافيد أو من هم خارجها. تتحول وحيدة ضمن العرض إلى كائن لا يمكنه تخطي هويته العربيّة والمشتهاة ما يجعلها محط رغبات من يحيط بها، إذ تتعرض لعنف وتحرش جنسي في أميركا وإسرائيل، وبالرغم من زيارتها لعدد من البلدان العربيّة سابقاً، إلا أن “ردّتها” نحو العروبة تظهر حين تزور الأراضي الفلسطينيّة ما وراء الجدار، وكأنها تعيش ضمن بنيان هوياتي هش انهار بمجرد أن سمعت اللغة العربيّة في تلك اللحظة تحديداً، هذه العلاقة المتينة بين اللغة والهوية تحضر في العرض بوصف اللغة قوة بإمكانها أن تكتسح أيّ بنية أخرى، حتى لو لم يكن الفرد يتحدثها أو يفهمها، وهذا ما يحصل مع دافيد الذي حدثته وحيدة بالعربيّة حين كان ميتاً دماغياً وكأن العربية تجري في عروقه، كذلك الأمر مع إيتان الذي يُخاطب بالعبريّة أثناء غيبوبته، وكأن الهويّة أشبه بجوهر لا يمكن الفكاك منه سواء كان عربياً أو عبرياً، أما اللغة الأصل فهي الوحيدة التي تصلح لمحادثة أولئك العالقين بين الحياة والموت بوصفها عاملاً دفيناً في تكوينهم البيولوجي. كاتب من سوريا

مشاركة :