فعلها عصام العبدالله وأدار ظهره إلى الحياة التي عبّ من مياهها حتى الثمالة تاركاً لنا، نحن أصدقاءه ومحبيه، أن نضغضغ كالعجائز ما تبقى من قشورها العجفاء. رحل عصام في أوج بهائه كما يليق بسدنة الأساطير وأبطال الملاحم، مسدلاً الستار خلف آخر القهقهات التي تركها إلى مصيرها في فضاء المدينة الخاوي. أقول ذلك وأنا أعرف أن الكتابة عنه في عجالة من الوقت هي ضرب من ضروب العبث. إذ كيف يمكن منزّه الأعاصير ومروّض الكلمات الحرون أن يُختزل في مقالة أو مرثاة. كيف يمكن بقليل من الكلام العي أن أعاين تلك الخلطة السحرية النادرة بين حضوره الاحتفالي وبين لغته الآسرة، بين عراب الجمال المتشكل في الأرض على غير هيئة ونموذج وبين العاشق الأبدي القادم من أخاديد سهل الخيام ليلْتهم بالأصابع الخمس واللعاب المجرد كل ما تقع عليه عيناه من متع العيش وموائده وغواياته. كان عصام نسيج نفسه بمقدار ما كان شخصاً غير قابل للتكرار. ولم يكن يوازي مهاراته في اجتراح مسالك للصداقة مأهولة بالوفاء وكرم النفس سوى الأشراك التي ينصبها بخفة الحواة لشوارد الكنايات وطرائد الخيال المدهش. وكان شديد التبرم بالمداهنات السمجة والعبارات المألوفة والكلام المنمق الذي لا يصيب الحقيقة في صميمها. وإذ كان توقه للمغامرة أهم من بلوغ الهدف، كان يلعب على الحبال الخطرة التي تقود حياته من قمة إلى أخرى، غير آبه بما يتهدده من مزالق وعثرات. وحده الموت لم يكن في حسبانه، وهو الذي اعتاد أن يرشو جسده الذي أثخنته الأمراض بكل ما يحتاجه من عقاقير البهجة وترياق الملذات. منذ يفاعته المبكرة بدا صاحب «مقام الصوت» رجلاً بأجساد كثيرة، أو أكثر مما يمكن لرجل واحد أن يكون. وكانت ملامح شخصيته تتشكل من خليط غير متكافئ بين جذوره الريفية التي تضرب بعيداً في عمق الجنوب، وبين تكوينه المديني الذي أكسبه انفتاحه على الآخرين وعمق ثقافته وتنوع صداقاته، والذي أتاح له الانخراط في عملية التغيير السياسي والاجتماعي التي وجدت ضالتها عبر أحزاب اليسار المنضوية تحت لواء الحركة الوطنية اللبنانية. وفي صخب التظاهرات الطلابية والشعبية الحاشدة كان عصام يُرفع فوق الأعناق ليردد بصوته الأجش ونبرته الحماسية العالية الكثير من الهتافات التي نظمها بنفسه وتحولت إلى لافتات منصوبة على مفارق الطرق وشعارات سياسية ومطلبية ترددها حناجر الآلاف من شهود ذلك الزمن وصانعي أحلامه التي أجهضتها الحرب. وفي مراحل حياته اللاحقة، أستاذاً وناظراً عاماً في ثانوية رمل الظريف وملحقاً في وزارة الإعلام وواسطةً لعقد الجلسات في المقاهي، ظل ينظم باستمرار خطوط دفاعه عن الفرح ويعيش الحياة في درجة الغليان، غير آبه بالطعنات المتلاحقة التي أثخنت جسده بالجراح وروحه بخيبات الأمل. عبر عقود من الصداقة واللقاءات التي لا تنقطع لم يحدث لنا أن وضعنا تصوّراً للمدينة من دونه، للنساء من غير التماعة عينيه الشبيهتين بعيني نسر، للأماكن من غير ضجيجه فيها، وللمواعيد من غير أن نضبط تلهّف قلوبنا على وقْع قدومه الكرنفالي. فهو صنّاجة المدينة وربيب ظهيراتها التي لم يكف منذ أربعين عاماً عن رفدها بأسباب البهجة والمرح والحضور الأليف. وهو المصوب دائماً إلى جوهر المعنى، حيث سهام التوريات اللماحة لا تخطئ الهدف. وحين كانت مقاهي الحمراء تقفل واحدة بعد أخرى بفعل الهجوم الضاري لحركة رأس المال المعولم، كان يترأس حملة البحث عن مقهى جديد يحتضن جمهرة المتحلقين حول «مدير مسرحهم» اليومي، قبل أن تطيح به المشاريع الأخرى المدرة للربح السريع. وكان المجلس قابلاً للاتساع باستمرار بازدياد عدد الباحثين، بعد إحالتهم على التقاعد، عن أماكن لتصريف الأعمار وعن كنف يعصمهم من العزلة واليأس وصقيع الكهولة الزاحف. ولأنه ارتضى بالدور الذي أناطه بنفسه في مداراة أحزان الآخرين والتربيت على مواطن آلامهم والتحول إلى حائط دائم لمبكى القانطين من أترابه، فلم يكن عنفوانه المكابر ليسمح له بالتشكي والتذمر والبكاء أمام أحد من جلساء المقهى. على أن الدموع التي تخثرت في محجريه ما لبثت أن تحدرت من عينيه إلى قلبه، ومن قلبه إلى رئتيه، ومن رئتيه إلى كبده. وبينما كان جسده ينوء بشراهته للحياة وإدمانه الانتحاري على التدخين وتحديقه الذئبي في طرائد الشهوات العصية على الافتراس. على الصعيد الإبداعي كان عصام العبدالله يضيق بشعر الشروح والمطولات والتفاسير، ويميل في المقابل إلى شعرية اللقى الثمينة والذكاء اللماح. ولأن الشعر عنده هو «اصطيادٌ لبرق الرأس»، على ما يقول أنسي الحاج، فهو لم يترك وراءه سوى مجموعات ثلاث كتبها جميعاً بالمحكية «البيضاء» التي رأى فيها سبيله الأمثل لقطف اللغة من منابتها وبراريها الأم، وطريقته الفضلى لإعادة الشعر إلى كنف الكهوف التي خرج منها في مطالع تكوّنه. والأرجح أن اختياره للمحكية كان وليد مكابداته الشاقة مع الفصحى التي نظم عبرها مقطوعات على الوزن الخليلي لم ترُق له، ولم يجد فيها ملاذه الأمثل وضالته المنشودة. وهو ما يفسر الظهور المتأخر لديوانه الأول «قهوة مرّة» الذي أصدره بعيْد الأربعين من عمره. وربما جسدت المحكية توقاً عميقاً لاستعادة عالم القرية الذي تم خسرانه، بوصفها «ريف الفصحى» وفناءها الطفولي الخلفي. ولم يمنعه افتتانه بتجارب الرحبانيين وسعيد عقل وميشال طراد وطلال حيدر من التطلع إلى اجتراح لغته الخاصة التي شرع أبوابها على ثقافة العصر ورياح الحداثة الوافدة. وظل يحرص باستمرار على المواءمة بين الصورة البصرية ذات البعد الحسي المشهدي، وبين الرنين الصوتي للحروف التي يحولها إلقاؤه المميز إلى ما يشبه الطقس الصوفي البحت. أما ميله الواضح إلى التأليف الحاذق والبلاغة المحكمة فكانت تخفف من وطأته نيران الداخل وجيشانات الروح وتلقائية اللغة المحمومة. فالشعر عنده هو ذلك الترنح الماكر بين الكتابة والإيماء، بين الهندسة والفطرة، وبين جمرة العروق ووردة التشكُّل. وهو نص البقاء الذي ترسمه في الصيف نمال الأشكال وتدخره لشتاء المعاني: «سطر النمل/ أول كتابه عالرمل/ ما طوّلِتْ/ مارقْ حدا إسمو الهوا/ ومرات إسمو الريحْ/ شافو النمل/ خاف ومِشي/ من مطْرحو عالزيحْ/ وتْخربط المعنى/ وصار النملْ تحت الرملْ/ صار الحكيْ تلميحْ. والشعر أيضاً هو ما تهيئه الأنوثة في مناماتها للنساء اللواتي ينضجن ببطء على نار التهيؤات الموارة بثمار الفتنة المغوية: «دقّ السهرْ عالنومْ قلّلو فْتاحْ/ جايبْ معي تفاحْ/ ونسوانْ متل الكستنا/ بْيحلو إذا ناموا على تخْت الجمرْ/ بْيحْلوا وبيصيروا عسلْ/ متل البلحْ/ بينام/ بيفيق الصبحْ صايرْ تمرْ». على أن أجمل الأشعار التي لم يدونها عصام العبدالله في دواوينه هي تلك التي كانت تصدر عفو الخاطر عن بديهته السريعة وقريحته الحاضرة، ويطلقها بشكل متلاحق على موائد المنادمة وصالونات المجالس وطاولات المقاهي. فهو شاعر المشافهة بامتياز وصياد المفارقات المباغتة والسائس الأمهر لأحصنة الفكاهة الساخرة التي لم يتوقف عن ارتجالها حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت غيبوبته بقليل. ولم يكن أمراً بلا دلالة أن ينتقل عصام العبدالله على مقلبي الأرض من «مقهى الروضة» إلى «روضة الشهيدين»، في إحدى أكثر استعاراته دلالة واكتظاظاً بالرموز. وليس أمراً بلا دلالة أن يختار مثواه الأخير في المدينة التي منحته أبهى سني عمره ومنحها إحدى أجمل ما حظيت به المدن من قصائد: «ما في مْدينه إسمْها بيروتْ/ بيروتْ عنقود الضّيَعْ/ لما استوى بالصيفْ والسكّر لمعْ/ طلْ الصبي عالحيطْ بدّو يقطْفو/ جاب العصايه ولوّحا/ صابو.../ وقْعوا الضّيَعْ/ وتْفرفط العنقودْ/ حَبّه ورا ضيعه ورا حَبّه/ وقْع العنبْ/ بعدا العريشه مشبّكي/ والخيط حدّ الخيط/ وبعْدو الصبي عالحيْطْ».
مشاركة :