مرور نحو 60 عاماً على استقلال الجزائر ليس كافياً لتغيير الموقف الفرنسي بخصوص الاعتذار عن جرائم الاستعمار (1830-1962) في حق الشعب الجزائري. ففي زيارته الأخيرة للجزائر أعطى الرئيس الفرنسي إشارات سلبية تفيد بأنه غير مستعد للخوض في الاعتذار، بل إنه استبق الزيارة بتصريحات توضح ما يعتقده بخصوص تاريخ فرنسا في إفريقيا قائلاً إنه «لا إنكار ولا اعتذار»، داعياً إلى طي صفحة الماضي وعدم تحميل الأجيال الحالية ذنوباً اقترفها الأجداد. وكان هذا الرد مخيباً لآمال الجزائريين الذين مازالوا يعانون من ميراث الحقبة الاستعمارية بآثارها المعنوية والمادية والأخلاقية. هذا الميراث يستعصي على النسيان أو المحو من الذاكرة الجمعية للشعب الجزائري الذي عانى طيلة 132 عاماً من احتلال غاشم تنوعت خلاله أشكال التعذيب والاحتقار والتهميش والعنصرية والمذابح الجماعية التي يمكن وصفها بأنها جرائم حرب. من أبرز تلك الجرائم تجنيد فرنسا الإجباري خلال الحربين العالميتين آلاف الجزائريين في جيشها مقابل وعودها بمنحهم المواطنة الكاملة، ما يتعارض مع اتفاقية لاهاي 1907 التي تمنع تجنيد سكان المستعمرات للأغراض العسكرية والأعمال الشاقة. عطفاً على ذلك فإن «مرسوم كريميو» منح الجنسية الفرنسية للأوروبيين واليهود فقط، في حين بقي الآخرون- المسلمون - في خانة «الأهالي المحليين». وتواكب انتهاء الحرب العالمية الثانية مع أحد أكبر الفظائع التي ارتكبها الاستعمار في حق الشعب الجزائري الذي خرج مطالباً بحقه في تقرير المصير في مدن سطيف وفالمة وخراطة، إلا أن جيش الاحتلال قابل هذه التظاهرات بالإعدامات الفورية والمجازر والقمع الوحشي، تاركاً 45 ألف قتيل وفق مؤرخين جزائريين، فيما التقديرات الرسمية الفرنسية بين 15 و20 ألف قتيل، ما يمكن وصفه في الأحوال كافة بـ «الهولوكوست» الفرنسي في الجزائر. أما أبشع جرائم الاستعمار الفرنسي على الإطلاق فيتمثل في إجراء تجارب نووية في الجزائر في وقت كان الزخم الدولي يتصاعد ضد ذلك. وبالفعل أعلنت الدول الثلاث العظمى آنذاك (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي السابق وبريطانيا) في عام 1958 حظر التجارب النووية الجوية. وعلى رغم ذلك أقدمت فرنسا على سلسلة من التجارب النووية باستخدام قنابل البلوتونيوم واليورانيوم. وكانت التجربة الأولى في 13 شباط (فبراير) 1960 على بعد 60 كم من مدينة رفان في محافظة أدرار، ويقال إنها تعادل في قوتها ثلاث مرات قوة القنبلة النووية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما. وأعقبتها تجارب الجربوع الأبيض (1 نيسان- أبريل 1960) الجربوع الأحمر (27 كانون الأول - ديسمبر 1960) والجربوع الأخضر (25 نيسان - أبريل 1961). ويعرض كتاب «التجارب النووية الفرنسية في الجزائر: دراسات وبحوث وشهادات»؛ كيف سخّر الفرنسيون السكان المحليين كأهداف لتلك التجارب بحجة العمل في مناجم الذهب بينما كان الجنود الفرنسيون يرتدون ملابس واقية خاصة، ولم يتوافر لدى السكان سوى ألبستهم العادية. والأفظع من ذلك أن ارغام السكان المحليين على ارتداء قلادات معدنية تحمل أرقاماً تسلسلية تُمَكن الخبراء الفرنسيين من قياس آثار الإشعاع عليهم موهمين السكان البسطاء بأنها «حروز» تقيهم شر الإشعاع. وفي السياق نفسه؛ يشير الفرنسي برينو باريلو في كتابه «التجارب النووية الفرنسية 1960- 1966» إلى أن سلطات الاستعمار الفرنسي استخدمت 42 ألف جزائري كـ «فئران تجارب» في تفجيرها أولى قنابلها النووية في صحراء الجزائر وأنّ الفرنسيين تعمّدوا الإكثار من ضحايا التجريب وتنويع الألبسة، للوقوف على مستوى مقاومة البشر للإشعاعات النووية على مسافات مختلفة. وتلت التجربة النووية الأولى درجة عالية من التلوث في صورة غمامة سوداء، في 16 شباط (فبراير) 1960. ويمكن تصور الآثار السلبية لهذا التلوث ليس فقط في السكان- الذين تعرض ما يقرب من مليونين منهم للإشعاع والنفايات النووية- ولكن أيضاً في النبات والحيوان والبيئة عموماً. مع هذا، اتبع ماكرون سياسة سابقيه الذين فضلوا المراوغة السياسية واختلاق الأعذار والتبريرات للإفلات من واجب الاعتذار عن جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر وكان آخرهم فرنسوا هولاند الذي لم يقدم اعتذاراً وإن كان أقرّ بأنه «نظام مستبد وغير عادل»؛ أثناء زيارته الجزائر عام 2012. وسبقه نيقولا ساركوزي الذي زار الجزائر نهاية 2007، ورفض الاعتذار أيضاً عن أخطاء غيره. بل يصر بعض السياسيين الفرنسيين على اعتبار احتلال الجزائر فعلاً حضارياً؛ ومن أبرزهم ممثل اليمين الفرنسي فرانسوا فيون الذي يزعم أن فرنسا نشرت الثقافة والتحضر في مستعمراتها الإفريقية، في نكران واضح لفظائع الاستعمار، ويمثل ذلك إهانة بالغة لضحاياه ومحاولة لاستلاب ومحو ذاكرة الشعوب. ومن المثير للسخرية أن ماكرون يتكلم كثيراً عن إضفاء الطابع الأخلاقي على السياسة وضرورة مراعاة ما يمكن أن تقوم به السلطة من أجل المصلحة العامة من دون أن تنتهك تحت أي ظرف المبادئ الأخلاقية. ألا يُعتبر الاعتذار الرسمي عن الاستعمار وتحمل مسؤولية الخطأ والتعويض عنه مطلباً أخلاقياً وإنسانياً لتجاوز المآسي والتحرر من قيود الماضي وطي صفحاته السوداء؟ * كاتبة مصرية
مشاركة :