ماذا نريد؟ سؤال «الهوية» في الزمن القلق

  • 12/21/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

< المنطقة العربية تعيش تقابلات وصراعات متولّد بعضها من بعض، فيها يختلط الديني بالسياسي بالأمني، وتتداخل الطموحات الإقليمية مع مشاريع الهيمنة الدولية المستمرة منذ عقود، وتشتبك خيوط التجاذبات مع الأهداف الاقتصادية والتنافس على الأسواق والصراع على توسيع رقعة النفوذ، وزاد من حدة هذا «الخليط»، ثورة الإعلام الجديد، وانفجار خزان المعلومات، ومشاركة الأفراد في «صناعة» الأخبار وما يتبعها من القدرة على تلوينها بالحقائق والأكاذيب، وتوجيهها إلى ما يخدم أهداف من يبثها أو يوظفها، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، لتحقيق مقاصده. وأصبح سيل المعلومات يفوق قدرة الإنسان الفرد على الهضم والتمثيل وفرز الصحيح من السقيم. هذه «الحال» زادت من قلق الأفراد وتوتُّر المجتمعات، وأدت إلى نشاط «الهويات الصغيرة» التي تحركها عوامل ومثيرات كثيرة، غالبيتها مصدرها هاجس الخوف من «الذوبان»، بعد أن كانت «الهوية العامة» قادرة على استيعاب المجموع في إطار «مشتركات» يقبلها الكل، من دون أن يخاف، أو يضطر «الجزء» إلى أن يتخلى عما يخصه، وجاء طغيان العنف والتشدد والتطرف ليغذي نهر الكراهية بمياه الطائفية والعرقية والجهوية، مما جعل الجميع في حال توجُّس وقلق وريبة وشكوك في كل ما حولهم. وهذا الواقع يلقي مسؤولية مضاعفة على المشتغلين بالسلم الاجتماعي، المعنيين بصناعة الرأي العام وواجبهم في العمل على تخليص المجتمعات من «أمراض الفترة»، وعدم ترك الساحة لأصحاب المشاريع الهدامة والأفكار الشاذة، وهنا تبرز أهمية الاجتهاد لإيجاد «خطاب مشترك» ترتضيه الأغلبية، ويساعدها على مواجهة نزعات الشذوذ والتطرف. أي أن هذه الفئة من العلماء المختصين وقادة الرأي عليها مسؤولية في هذه المرحلة الحرجة، التي تتطلب جهوداً مضاعفة لإيقاف حال الانحدار التي تهدد الجميع. وفي هذا السياق، لفتت نظري مقالة أستاذ الإعلام الدكتور علي بن شويل، الذي أثار قضية قديمة متجددة في مطالبته بالعمل على إيجاد نظرية كبرى عن المجتمع والإعلام (الجزيرة 12-10-2017)، وقال إن «غياب نظرية كبرى عن المجتمع العربي أدى، طبعاً، إلى غياب نظرية متفرعة عنها في الإعلام والاتصال وتخصصات إنسانية واجتماعية أخرى، ولهذا فإن هذا التوجّه الكبير في إيجاد نظرية كبرى تفسّر لنا تاريخ العرب وتحدد أطره، وربما تستشرف مستقبله وتؤثر على الشأن العام في المجتمعات العربية، هو ما ننادي له في هذه المرحلة»، ويقرر أنه لا توجد نظريات متكاملة في الإعلام، (مجال اختصاصه) خارج المدارس الأربع المسيطرة، الأميركية والإنكليزية والألمانية والفرنسية، و«كل شيء آخر هو تقليد ومرهون باستنساخ واضح كما هو في أستراليا وآسيا وأفريقيا والعالم العربي». ومقال شويل يعيد طرح إشكال الهوية من زاوية الإعلام، أي أنه يعيد «تدوير» السؤال القديم المتجدد: من نحن، وماذا نريد، وماذا لدينا نقدمه للعالم؟ وحول هذا السؤال، وما يتولد عنه من أسئلة، «دندن» مفكرو العرب لأكثر من 100 سنة، واختلفت بهم الاجتهادات، بحسب منطلقاتهم، فالذين رأوا في «العروبة» جامعاً تاريخياً، بتقاليدها وتاريخها ومثلها، منفصلة عن المؤثرات الدينية، انتهوا إلى صيغ لم يتمكنوا من تشكيل وعي عام متجذّر في القواعد الشعبية، وبقي تأثيرهم الحيوي منحصراً في «شرائح ثقافية»، كان لها بريقها فترة صعود التيار القومي إلى كراسي الحكم، لكن «انكسار 1967» ألحق بوعيهم ومعنوياتهم أضراراً جسيمة، وشروخاً غائرة، ظلت تأكل من الأرض التي يقفون عليها، حتى جاء السادات واستغل خصومهم (الإسلاميين) لتحقيق أغراض سياسية، وإن تمسح بالعودة إلى الجذور ورفع شعار «الإيمان»، فجاءت النتائج مشوشة لم تقدم البديل المقنع المغري، بل ضيّقت أفق البحث، وتحول إلى «معارك» هدفها الانتصار وليس تجلية الحقيقة. هذا الصعود السياسي أحيا في نفوس بعض الباحثين أمل العودة إلى تطوير ما بدأه الرواد، والاستفادة من تقدم مناهج البحث في العلوم الإنسانية وتجارب الحكم، لبلورة ما يمكن أن يصلح إضافة جديدة لمن يريد أن يؤسس «نظرية كبرى»، كما يطالب الدكتور شويل. وشهدت الثمانينات من القرن الماضي، ما سمي في تاريخ الأفكار «بأسلمة المعرفة» التي اتجهت، بادئ الأمر، إلى العلوم الإنسانية، في محاولة لإثبات أن منجز حضارة هذه المنطقة فيه جذور وبدايات لكثير من العلوم الإنسانية المعاصرة التي تطورت على أيدي العلماء الغربيين، فتبلورت في مدارس لعلم النفس ولعلم الاجتماع ومناهج البحث ومبادئ العلوم السياسية والاقتصادية، وكل تلك المحاولات «العلمية»، كانت بواعثها إلحاح «الهوية» المصاحب، عادة، لزمن الضعف، وتمركزت «حفرياتها» حول إمكانية بناء «نظرية» في العلوم الإنسانية، ولكن الصبغة «الآيديولوجية» المختلطة بالأهداف السياسة الحزبية أساءت إلى «علمية» تلك المحاولة، فانحرفت بها حين جعلت أصحابها يدافعون عنها وعن نتائجها بكل الوسائل، حتى غير العلمية، كما أوقعت المناوئين لها في مساوئ الخصومة الفكرية والسياسية فاندفعوا إلى محاربة الفكرة، بالحق وبالباطل، وتسفيه جهود القائمين عليها وعبثية ما يقومون به، فانتهى «المشروع» الذي بدأ بعنوان «العلم»، إلى «أدوات» في الصراع السياسي والخصومة الآيديولوجية. وهكذا تبدو هذه المنطقة «تراوح» مكانها، منذ أكثر من 100 سنة، البعض يسوقها نحو الغرب للالتحاق به بلا شروط، والبعض «يفصل» مكوناتها الثقافية وموروثها الحضاري إلى أجزاء، يطرح ما لا يروق له، ويستصحب ما يريد إلى حيث يريد أو يظن أنه يريد، «القوميون» لهم «هويتهم» التي تضيق حتى عن بعض أجنحتهم، و«الإسلاميون» لهم مواصفاتهم التي تتسع حتى تتلاشى ملامحها ويصعب تصورها على أرض الواقع. والسؤال المحوري الذي تثيره مقالة الدكتور شويل هو: لماذا توجد مدارس ونظريات إعلامية أميركية وإنكليزية وألمانية وفرنسية وما عداها «استنساخ» وتلفيق؟ هل لأن النظام الاجتماعي في تلك المجتمعات قائم على «توافق» تحصل بعد تجارب حياتية وتم ترسيخه واستمرار الحفاظ على ما بني عليه من قواعد وتطويره حتى صار قابلاً للقياس، وبالتالي يمكن درس المؤثرات الأساسية، والتنبؤ باستقباله للأشياء، وأن عدم وجود نظريات في العالم الثالث، مرده إلى عدم وجود «هوية» متفق عليها؟ أسئلة ليست جديدة، والمواقف حيالها، قديماً وحديثاً، متعددة بتعدد زاوية النظر، واختلاف المنطلقات الثقافية، وتقدير مساحة الهواجس من المختلف، لكنها أسئلة ستظل حية في نفوس الكثيرين من أبناء العرب والمسلمين حتى تزول أسبابها.     * كاتب سعودي. mohalfal@

مشاركة :