رفعت الصين مستوى مخاوف المستثمرين في أكثر من مناسبة بالتوازي مع استمرار الدولة في تحقيق اندماج أعمق مع النظام المالي العالمي. كما لعبت بكين دوراً كبيراً في إحداث آخر عمليتي تصحيح في أسواق الأسهم العالمية عامي 2015 و2016. قبل بضعة أسابيع، قادت أسواق الأسهم الصينية عمليات بيع عالمية على خلفية المخاوف بشأن نمو الدولة. وما لبثت المخاوف أن تلاشت في أعقاب نشر بيانات التصدير الصينية الجيدة بشكل مفاجئ، والخطوات الرئيسة المتخذة في مجال الإصلاح الضريبي بالولايات المتحدة الأميركية. ومع ذلك، ووفق تقرير صادر عن «ساكسو بنك»، مازال بعض المستثمرين يرون في ذلك إنذاراً مبكراً لقدوم صدمة جديدة من آسيا. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، رفعت الصين مستوى مخاوف المستثمرين في أكثر من مناسبة بالتوازي مع استمرار الدولة بتحقيق اندماج أعمق مع النظام المالي العالمي. كما لعبت الصين دوراً كبيراً في إحداث آخر عمليتي تصحيح في أسواق الأسهم العالمية عامي 2015 و2016. وفي يناير 2016، انخفض مؤشر بورصة شنغهاي المركب بنسبة 19 في المئة، مما تسبب في مبيعات عالمية حادة استمرت شهرين تقريباً. فهل ينبغي أن تخشى الأسواق من وقوع انهيار صيني جديد في عام 2018؟ يرتفع حتمال حدوث مثل هذا الانهيار مجدداً ويقترب، ولكن توجد عوامل كثيرة يمكنها الحد من المخاطر بشكل فاعل. أبرز المخاطر المرتبطة بالتطورات المالية الكلية في الصين يتجه الاقتصاد الصيني نحو تباطؤ أكثر حدة بالمقارنة مع توقعات السوق، ولا يعتبر التشديد بعد انعقاد المؤتمر أمراً جديداً. وظهر مؤشر المفاجآت الاقتصادية في الصين سلبياً منذ سبتمبر؛ وبدت بيانات أكتوبر للأنشطة الصينية في السوق العقارية، والقطاع الصناعي، والخدمات والبناء والاستثمار أكثر ضعفا، نظراً لتأثيرات التقويم «انعقاد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني»، والحد من القدرة الزائدة. وكان إيقاف أو إلغاء عدد من مشاريع البنية التحتية مثيراً للدهشة، في خطوة تهدف للتركيز على الجودة بالمقارنة مع حجم النمو (مشاريع مترو الأنفاق في منغوليا الداخلية على سبيل المثال). وسيكون لذلك تأثير سلبي على القطاع الخاص (حيث تعتمد معظم المشاريع في الصين على أسلوب الشراكة بين القطاعين العام والخاص)، وسيمتد ذلك إلى النمو بطبيعة الحال، حيث تمثل مشاريع البنية التحتية نحو 20 في المئة من إجمالي استثمارات الأصول الثابتة. وإلى جانب انخفاض الاستثمار في البنية التحتية، يمهد الدافع الائتماني السلبي الطريق أمام تباطؤ لا مفر منه، وقد يكون أكبر مما هو متوقع في العادة. وإضافة إلى ذلك، بدأت علامات العدوى من التباطؤ الصيني بالظهور في أستراليا وهونغ كونغ، حيث يتجه مؤشر حجم تجارة البضائع والسلع – والذي يعد بديلا جيداً للتجارة الصينية، نظراً لمكانته كميناء وسيط – نحو الانخفاض منذ مطلع العام. وبالرغم من أنها لا تعتبر مستويات مثيرة للقلق بعد، فإنها تمثل علامة مبكرة على الرياح المعاكسة التي سيواجهها الاقتصاد العالمي في وقت قريب جداً. وفيما لا يبدو مستوى ديون الشركات في الصين مرتفعاً (46.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من عام 2017)، يشهد معدل خدمة الدين في القطاع الخاص ارتفاعا متسارعا. وهو أمر نادرا ما يذكر عند التطرق للمخاطر المالية في الصين. واستنادا إلى بيانات بنك التسويات الدولي، وصلت خدمة الدين في القطاع الخاص إلى مستويات قياسية بنسبة 20 في المئة من الدخل (مقارنة مع 11.7 في المئة فقط في عام 2008). وبالرغم من تخفيض قيمة الديون، يتوقع أن يستمر هذا التوجه على المدى المتوسط على الأقل، مما يثير المخاوف من احتمال توجه القطاع الخاص نحو تخصيص حصة متزايدة لتسديد الديون على حساب الاستثمار والأجور في سياق غير مؤات من النمو البطيء. ملاذ آمن تعتبر الحكومة الصينية موجهاً مباشراً وحاملاً غير مباشر للديون الخاصة (من خلال البنوك الكبيرة والشركات المملوكة للدولة، والتي تمثل نحو ثلثي إجمالي ديون الشركات في البلاد)، وفي أسوأ الحالات، يتيح المستوى المرتفع لمعدل الادخار الإجمالي (حوالي 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 17 في المئة في الولايات المتحدة الأميركية) ملاذاً آمناً يمكن للحكومة الاعتماد عليه. وحتى الآن، لا يملك المستثمرون الأجانب سوى نسبة هامشية من الدين العام الصيني (حوالي 1 في المئة)، مما يحد من خطر انتقال العدوى المالية. وستبدأ مستويات الديون المرتفعة بتمثيل مخاطر عالمية بمجرد تطبيق التحرير المالي. وحتى المضاربين على الارتفاع في الصين لا يستطيعون استبعاد ما قد يؤديه التحرير من صدمات مالية عالمية أكثر تواترا، جراء الصين من خلال الوساطة المصرفية والمالية على وجه التحديد. وينبغي أن يعتاد المستثمرون على الصين خلال السنوات المقبلة باعتبارها منطقة عدم استقرار مالية. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا هو معرفة حجم هذه الصدمات، وما إذا كان الاقتصاد العالمي – الذي يعاني حجم مديونية كبيرا، ويواجه نمواً بطيئاً – قادرا على احتواء الموجة السلبية. ومن شأن التوتر الدائم على معدلات الاقتراض أن يؤدي إلى حالات إفلاس تؤثر أولا على القطاعات التي تعاني قدرة فائضة، مما يتطلب تدخل الدولة لمنع انتقال العدوى إلى البنوك الأربعة الكبرى. ونعتقد أن التحرير المالي يمثل التحدي الرئيس للصين والاقتصاد العالمي على المدى البعيد. ولم تتضح ملامح الجدول الزمني بعد، ولكن يتوقع حدوث تغييرات كبيرة في السنوات القليلة المقبلة (على سبيل المثال، سيسمح للمستثمرين الأجانب بامتلاك حصة أغلبية في المؤسسات المالية للدولة، في حين لا يمتلكون حالياً سوى 20 في المئة كحد أقصى). ومن المؤكد أن «الانفجار الكبير» سيعود بنتائج إيجابية على المدى البعيد في العالم كما فعلت سياسة «الباب المفتوح» التي قادها الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ؛ غير أنها ستزيد من المخاطر المالية العالمية المرتبطة بالصين. وحتى الآن، كان التباطؤ الاقتصادي في الصين عامل التأثير الأساسي على بقية أنحاء العالم من خلال التجارة والعملة. وبمجرد أن يتحقق التحرر المالي، فإن المصارف وشركات الوساطة المالية ستطبق هذه السياسة، مما يشكل خطراً نظامياً مهماً في حال كان التباطؤ أكثر عمقاً من المتوقع، أو عند بداية دورة القروض المتعثرة القادمة. ما الذي يمكن أن يخفف من المخاطر بشكل فاعل؟ في عامي 2015 و2016، ركزت المخاوف العالمية بشأن الصين بشكل أساسي على تدفق رأس المال وانخفاض قيمة اليوان. واختفت تلك المخاوف منذ ذلك الحين، وجاء ذلك في الغالب نتيجة لتحسين ضوابط رأس المال. وتراجعت حدة تدخلات بنك الشعب الصيني في سوق البورصة بشكل كبير في عام 2017؛ ولأول مرة طوال شهر أكتوبر منذ الأزمة المالية، لم يتدخل البنك المركزي الصيني في السوق على الإطلاق. وبقيت تدخلات السوق هامشية في شهر نوفمبر، عندما لم يتجاوز صافي المشتريات/ صافي المبيعات بالعملات الأجنبية عبر بنك الشعب الصيني مبلغ 10 مليارات دولار. وثمة مؤشر آخر على ارتفاع الاستقرار المالي يتمثل في الفجوة بين اليوان البري والبحري (والتي اتسعت في الفترة بين عامي 2014 و2015، مما أدى إلى انخفاض حاد في قيمة العملة)، والتي أغلقت تماماً منذ الربع الأول من عام 2016. وفي النهاية، تمكن بنك الشعب الصيني من إعادة بناء احتياطياته من العملات الأجنبية منذ مطلع العام، ليصل إلى 3.12 تريليونات دولار في نوفمبر. وتشير هذه العناصر إلى تحسن واقع الاستقرار المالي والتوجيه من قبل البنك المركزي في سوق المال. ولا يمكن حصر المشكلة المتزايدة للصين الآن في هروب قدر كبير من رأس المال، وإنما إعادة رأس المال الذي تحتفظ به الشركات الصينية متعددة الجنسيات، مما أدى إلى خسارة طويلة الأمد للقدرات الاستثمارية الصينية والنمو. ولايزال الاستهلاك مصدراً مستقراً للنمو يمكنه على أقل تقدير تعويض التباطؤ الذي يشهده الاستثمار والبناء. وبلغت ثقة المستهلكين أعلى مستوياتها منذ نهاية عام 1996، نظرا لتحسن ظروف سوق العمل والنمو القوي للأجور. ومنذ عام 1999، ارتفعت الأجور بشكل كبير، سواء من حيث قيمتها الحقيقية أو الاسمية، لتصبح أعلى بكثير من المستويات التي شهدتها البلدان النامية الرئيسة الأخرى. وخلال الفترة ذاتها، حافظ نمو الأجور الاسمية على مستوياته تقريبا فوق 10 في المئة (على أساس سنوي). وتباطأ أخيرا ليصل إلى 9.1 في المئة من حيث القيمة الاسمية، و6.9 في المئة من حيث القيمة الحقيقية في عام 2016. وبالاقتران مع انخفاض التضخم، يوفر ارتفاع الدخل لعدد من صناع السياسات بعض الراحة عند مواجهة التحديات المالية الصينية على المدى المتوسط. وفي الوقت ذاته، لا يزال العمل على تخفيض قيمة الديون المالية جارياً. ومنذ منتصف عام 2016، تم التعاقد على القروض المقدمة للمؤسسات المالية غير المصرفية على أساس سنوي. وفي أكتوبر 2017، انخفض هذا المقياس بنسبة 33 في المئة على أساس سنوي. وجاء ذلك نتيجة مباشرة لظروف نقدية أكثر تشدداً، وتنظيم أكثر صرامة. ورفع بنك الشعب الصيني معدلات الفائدة مرتين هذا العام بالنسبة إلى تسهيلات الإقراض متوسطة الأجل؛ ويتوقع استمرار هذا النهج في العام المقبل. وإلى جانب هذه التدابير، اتخذت الجهات التنظيمية الصينية خطوات مقنعة نحو وضع قواعد أكثر تشدداً بشأن منتجات إدارة الأصول، بما في ذلك نسبة الرافعة المالية القياسية والمدفوعات المضمونة؛ والتي ينبغي تنفيذها بشكل كامل بحلول عام 2019. غير أن المخاطر المرتبطة بالدين الصيني لا تزال تشكل نقطة قلق أساسية بالنسبة للمستثمرين – وهو ما أدى إلى ارتفاع عائدات السندات على مدى الأشهر القليلة الماضية. وقد دفعت المؤشر الحكومي الصيني على مدى 10 سنوات على مقربة من أعلى مستوياته منذ ثلاث سنوات عند نحو 4 في المئة، مقارنة مع الانخفاض في عام 2016 عند 2.6 في المئة، ولكن مجدداً، توجد عوامل مهمة لتخفيف المخاطر. التحرير المالي من الناحية التاريخية، كان التحرير المالي محفزاً رئيسياً في الأزمات المالية السابقة التي تعرضت لها الأسواق الناشئة. وفيما يبدو أن الصين تمتلك عدداً من نقاط القوة التي لا تحظى بها دول أخرى في الأسواق الناشئة، فإن هناك خطرا كبيرا من أن تؤدي هذه العملية إلى زيادة تمويل المضاربات، مما يزيد من احتمال تقصير المقترضين في سياق مديونية مرتفعة جداً. وتدرك السلطات هذه المخاطر بشكل كامل بناء على ما أثبته خطاب شي جين بينغ، الذي استغرق ثلاث ساعات في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني... وهذا هو السبب الذي يبرز حاجة الصين إلى تقليص حجم المديونية بحذر وسرعة.
مشاركة :