استراتيجية ترامب: العودة إلى الحرب الباردة

  • 12/28/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

د. عبد المنعم المشاط يلتزم الرئيس الأمريكي قانوناً بصياغة استراتيجية الأمن القومي بنهاية عامه الأول دون ضرورة الالتزام بها، وتتركز أهميتها في تحديد الأولويات الأمريكية وضرورة احترامها. وتحمل الاستراتيجية ما يطلق عليه «مبدأ الرئيس» الذي يقود حركته في الداخل والخارج؛ فاستراتيجية جورج بوش حملت مبدأ «نشر الديمقراطية» في العالم خاصةً في الشرق الأوسط، وقدم أوباما مبدأ «القيادة بالنموذج» وأن الولايات المتحدة لن تستخدم القوة إلاّ في حالة الاعتداء عليها، أما ترامب فيقدم مبدأ باهتاً هو «أمريكا أولًا»، والذي يقوم على الواقعية المبدئية، وهو مبدأ لم يصل إلى مبدأ ريجان الذي يقضي بأن الولايات المتحدة رقم 1 في النظام الدولي.ما ورد في استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها ترامب في 18 ديسمبر يتعارض في بعض أبعاده مع السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة خصوصاً إزاء روسيا والصين؛ فقد كان في خطابه أقل عنفاً تجاههما عكس ما ورد في الوثيقة، كما أنه ذكر روسيا مرة واحدة بينما جاء ذكرها في الوثيقة 24 مرة، ومن اللافت للنظر، عند تناول التحديات التي تواجه الأمن الأمريكي والدولي، ذكر كل من روسيا والصين إلى جانب «الدول المارقة» مثل كوريا الشمالية وإيران والمنظمات الإرهابية، ما يحد من إمكانات تقديم استراتيجية كونية للمواجهة. ففي الدراسات الأمنية يتم التمييز بين التهديدات الرئيسية التي ينبغي مواجهتها فوراً والتهديدات الثانوية التي يمكن إرجاؤها لحين تعبئة الحلفاء والشركاء والقوات اللازمة، ولا شك أن هذا التناول يؤدي إلى الإغراق في التفاصيل التي تحد من القدرة على التخطيط كونيّاً.وتقوم استراتيجية الأمن القومي على أربعة أعمدة: حماية الشعب والقيم وأسلوب الحياة الأمريكي، الإعلاء من الرفاه الأمريكية، السلام من خلال القوة، والإعلاء من النفوذ الأمريكي خاصةً في مواجهة محاولات كل من الصين وروسيا لصياغة العالم بصورة تتعارض مع القيم والمصالح الأمريكية، فالصين تسعى إلى خلع الولايات المتحدة من دورها التقليدي مثلاً في الإقليم الهندي الباسيفيكي وتوسيع ومناصرة النموذج الاقتصادي الصيني وإعادة تشكيل الإقليم لصالحها، ولكن أليس ذلك ما أعلنه ضمنياً ترامب خلال حضوره اجتماع «آبيك» خلال شهر أكتوبر، كما تسعى روسيا إلى استعادة مكانتها وبناء مناطق نفوذ متاخمة لحدودها، وربما يبرر ذلك غزوها لكل من أوكرانيا وچورچيا وخرق سيادتهما. وتحدد استراتيجية الأمن القومي الخطر الداهم الذي تمثله كل من الصين وروسيا باعتبارهما منافسين استراتيجيين يسعيان إلى خلق نظام دولي مضطرب يفسح لهما المجال للصعود ويهوي بمكانة الولايات المتحدة بمجموعة من الخطوات لكل منهما تستهدف الإحلال محل الولايات المتحدة حتى في مناطق نفوذها التقليدي، وفي هذا الإطار، تستخدم استراتيجية الأمن القومي، وكذلك ترامب، ألفاظاً شعبوية واتهامات تعود إلى مرحلة الحرب الباردة، بل إن الإجراءات المقترحة تعود بنا أيضاً إلى فترة التنافس الدولي بين الولايات المتحدة من جانب والاتحاد السوفييتي والصين من جانب آخر. وتتهم الاستراتيجية روسيا بنشر الصراعات والحروب ليس فقط في الدول المتاخمة لها، وإنما أيضاً في دول ذات أهمية استراتيجية مثل سوريا، كما تسعى إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وذلك باستخدام الأدوات المعلوماتية في الهجوم السيبرالي للتأثير على التطورات المحلية والتشكيك في مشروعية الديمقراطية والتأثير على الرأي العام الكوني، وتحاول كذلك تطويق النفوذ الأمريكي بخلق شقاق بينها وبين حلفائها التقليديين خصوصاً في أوروبا كما تسعى إلى مساندة «النظم الديكتاتورية» مثل كوبا وفنزويلا. أما تناول استراتيجية الأمن القومي لخطورة الصين؛ فإنه أكثر تعقيداً، ففي الوقت الذي يصل الدين الأمريكي إلى ما يناهز 20 تريليون دولار، نجد أن الصين هي أكثر الدول الدائنة بحوالي 1.14 تريليون دولار، كما صارت الصين الدولة الأولى في النظام الدولي في كل من الناتج القومي الإجمالي وحجم التجارة الدولية تليها الولايات المتحدة، وهكذا، يتهم ترامب الصين ليس فقط بالسعي إلى بناء قدرات عسكرية نووية وتقليدية والتقدم في تكنولوچيا الفضاء، وإنما أيضاً سعيها إلى السطو على الابتكارات الأمريكية باستخدام الذكاء الاصطناعي بما يضر بجودة السلع والمنتجات الأمريكية، كما تستخدم الصين مواطنيها المهاجرين أو الدارسين في الجامعات الأمريكية في جمع المعلومات التقنية الحديثة، ولم تكتفِ الصين بالتوسع الاقتصادي في آسيا، بل امتد إلى أوروبا عبر الإجراءات التجارية غير العادلة -كما تراها الولايات المتحدة- والاستثمار في صناعات رئيسية ومجالات تكنولوجية حساسة وفي البنية التحتية، وهي الإجراءات والسياسات ذاتها التي تتبعها الصين في إفريقيا، حيث صارت الشريك التجاري الرئيسي، وامتد نشاطها التجاري والاقتصادي كذلك إلى أمريكا اللاتينية سواء تعلق بالاستثمار في البنية التحتية أو الصناعات الاستراتيجية أو فتح أسواق ضخمة أمامها، وكانت إفريقيا تشكل مطمعًا لإدارة ترامب، حيث احتمالات النمو الاقتصادي مرتفعة والفرص سانحة، إلا أن الوثيقة تتهم الصين بنشر الفساد في إفريقيا خصوصًا بين النخبة لتهيئة المناخ لنشاطها الاقتصادي. وعلى الرغم من جسامة هذه التحديات، إلا أن استراتيجية الأمن القومي لم تحدد سبل المواجهة وانتقدت بشدة سياسات أوباما إزاء الدولتين خصوصاً الصين، حينما اعتقد أوباما أن دمج الصين في النظام الدولي خصوصاً النظام الاقتصادي سوف يقودها إلى التغيير وتبني الحرية، إلاّ أن ذلك لم يحدث، فعلى العكس، «تقوم الدولتان بنشر نفوذهما على حساب الدور الأمريكي والترويج لأيديولوجياتهما القائمة على توسيع دور الدولة عكس الفكر الأمريكي الذي يسعى إلى نشر قيم الحرية والمشاركة والحد من دور الدولة وتوسيع دور القطاع الخاص»، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الوثيقة تشير إلى استعداد الولايات المتحدة للتعاون مع الدولتين في المناطق التي توجد بها مصالح مشتركة. ولإعادة السيطرة الأمريكية على النظام الدولي، تدعو الاستراتيجية إلى: أولًا- ضرورة دمج عناصر القوة الأمريكية الثلاثة: الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، بحيث تستمر القوة العسكرية الأمريكية رقم 1 في النظام الدولي، وثانيًا- التعاون مع الشركاء والحلفاء لمواجهة العدوان الروسي في أقاليم العالم المختلفة وضد أي إجراءات اقتصادية وتجارية توسعية صينية، وفي هذا الإطار، ترى الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ينبغي أن تستمر في امتلاك مفاتيح الرخاء والسلام في العالم، وأن السلام يتحقق بالقوة وليس بالضعف، كما أن الرخاء يتطلب، بالإضافة إلى توفير شروط تجارية لصالح الولايات المتحدة، مشاركة الشركاء والحلفاء في التكاليف الدفاعية ضد التحدي الروسي والقرصنة الصينية، سواء كان الحديث عن حلف الناتو أو الدفاع عن الدول العربية التي تخشى التحدي الإيراني وتهديدات الإرهاب. وعلى الرغم من أهمية الوثيقة، إلاّ أنها لم تأتِ بجديد ولا تعكس الخطاب السياسي لترامب، فلا هي تروج للعزلة الأمريكية لبناء «أمريكا أولًا»، ولا هي تدعو إلى مواجهة صريحة للنفوذ المتصاعد لكل من روسيا والصين، سواء على المستوى الكوني أو المستويات الإقليمية، وهكذا، يستمر ذلك التضارب الذي يخيم على السياسة الخارجية للولايات المتحدة للسنوات الثلاث الباقية لإدارة ترامب بما يشير إلى تزايد احتمالات تكريس الدور المتعاظم لكل من روسيا والصين واحتمالات أوسع لاستقطاب دولي جديد.

مشاركة :