شاعر تونسي يكتب الاحتجاج بلغة مبتكرة

  • 12/30/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

شاعر تونسي يكتب الاحتجاج بلغة مبتكرةيمثل جيل ثمانينات القرن الماضي من شعراء تونس، الجيل الذي وضع الأسس الحقيقية للحداثة الشعرية التونسية، وثبت مفاهيمها ورؤاها وتعابيرها الجمالية، مستفيدا من الجهد التنظيري لحركة الطليعة في تونس، ومن التجارب الشعرية الغربية والمشرقية نقداً وإبداعا، ولعل يوسف خديم الله يمثل أحد رواد ذلك الجيل الذي ترك بصمته في الشعر التونسي الحديث.العرب سفيان رجب [نُشر في 2017/12/30، العدد: 10856، ص(14)]الشعر لعب يكسر القوالب والقيود (لوحة للفنان سعد يكن) يتحدث أستاذ المسرح في الجامعة التونسية والروائي والمسرحي يوسف البحري، عن الشاعر يوسف خديم الله فيقول “إنه يبتكر الجملة الشعرية العميقة، التي طبعت كل الشعراء التونسيين تقريبا بما في ذلك أولاد أحمد، الجملة التي تخلق دينامية الكليشيه، وتقوم بتفصيح العامية”. بعد إصدار أول عن بيت الشعر التونسي في السنة الثانية عشرة من الألفية الثالثة، وهو مجموعته الشعرية “هواء سيء السمعة”، يطل علينا يوسف خديم اللٰه هذه الأيام بإصدار جديد عن دار ديار للنشر بعنوان “عرق ذهني أو عضة فاكهة على فم عاطل”، وهي قصائد كتبها الشاعر في تسعينات القرن المنقضي. قصائد اللعب “عرق ذهني” نصوص للاحتجاج والتهكم ورفض الخطابات النمطية، فهي تخرب اللغة الرومانسية الصافية التي كانت تطغى على الشعر التونسي، وتسخر منها. يقول الشاعر في قصيدة راحة أسبوعية “أنا كلب، أموت وحيدا، يرافقني الذيل، فقط”. هذا المقطع يزيح القشرة التي تغطي القاع الذي سقط فيه الإنسان مكبلا بسلاسل حياته اليومية، وقد دجنته الأنظمة الرأسمالية وحولته إلى مجرد حيوان أليف متاح للواجب وللاشتغال المختبري. يقول شتراوس “إن الإنسان كلما غاص في الروحانيات من نشاط تأملي وفلسفي وفني صعب تدجينه، عكس الذي يغلب عليه الحيواني، الانفعالي والعاطفي”. الشاعر قبل أن يكون لسانا، هو عين مفتوحة تلتهم المشاهد، وهو بالأساس أذن لها قدرة خارقة على امتصاص الأصوات. وهذا يذكرنا بقولة أوكتافيو باث “أن تقرأ قصيدة، يعني أن تسمعها بعينيك، أن تسمعها يعني أن تراها بأذنيك”. وهذا ما تلخصه قصيدة خديم الله التي تلعب بالحواس، وتشوشها، وتشكك في وظائفها، وتربكها، يقول الشاعرُ في قصيدة ثورة مضادة “بابٌ مفتوحٌ. عينٌ/ تسمع أيضا. الهواءُ/ يدخلُ يابساً، في حجارة أو شتيمة. الماء/ غاز سائل في لعاب مظاهرة صامتة، يقودها مفتاح يائس، من الباب حينا. ومن الأيدي، دائما”. بل إن قصيدة خديم الله لا تقترح سوى اللعب ليس بالأفكار فحسب وإنما باللغة أيضا، فهي تبحث عما يتجاور في اللغة موسيقيا ويتنافر دلاليا فتخلق شبكة من العدولات التي تستفز الذهن وتزرع حواجز للقراءة المسترسلة، فقصيدة خديم اللٰه تمثل تعذيبا حقيقيا للقارئ المطمئن، عليك أن تتدرب على القراءة المتأملة والبطيئة تماماً كالغوص في الحدائق المرجانية أو كالسير في المتاحف.نصوص للاحتجاج والتهكم ورفض النمطية، تخرب اللغة الرومانسية الصافية التي كانت تطغى على الشعر التونسي تحطيم القوالب لا شيء مجانيّا عند يوسف خديم اللٰه، كل شيء موظف بدقة، من عناوين النصوص إلى حركات الأفعال إلى النقطة آخر كل نص إلى الصفحات الشاغرة التي تركها لتثاؤب القارئ. كلها مفاتيح للمتاهات التي ترسمها التناقضات الدلالية. كما اشتغل الشاعر في كتابه على النصوص الموازية بداية من التصدير الذي اختاره من عالم برتولد بريشت، ينعته الشاعر بصفة جارنا، وهذه الصفة تفتح دلالات لا حد لها للتجاور الفكري والحضاري والذي يلغي فكرة الجغرافيا والتاريخ أيضا، يقول بريشت في التصدير الذي اختاره الشاعر لكتابه “ما لم يفكر الوضعاء في ما هو وضيع، فلن يرتقوا أبدا”. جعل الشاعر من مقطع بريشت هذا مصباحه الذي علقه على عتبة كتابه، فالنصوص تحفر في ما هو وضيع، لكن غايتها الارتفاع، وهذه فلسفة نص خديم اللٰه في “عرق ذهني”. يشتغل الشاعر في حقل المعرفة الإنسانية بمعاول الشك، فهو يدير وجهه عن كل آلهة المطر والخصوبة، بل ويصورها كمجرد فزاعات في حقله، وهو يعتمد على عرقه الذهني لا غير، ويقوم بري الأفكار قطرة قطرة، مقتدياً بأحد أجداده القرطاجيين العظماء وهو عالم الزراعة “ماجون”. إن الحديث هنا تحول من الكتابة إلى الفلاحة والمسألة لا تمثل إشكالا البتة عند الكتاب الكبار، فعرق الجسد لا يختلف عن عرق الذهن كما يقول هيمنغواي، يقول خديم الله في مقطع مشاكس من قصيدة رجل يتثاءب في بيته والتي أخذها من كتابه الأول “هواء سيء السمعة” وتحت إهداء لصديقه الشاعر عزوز الجملي “فلاحة؟. ـ ري الإسمنت بالأديولوجيا. تضميد الأشجار بالأرقام. والأشواك، بالرغبة”. لا يكف الشاعر عن المشاكسة على امتداد الصفحات الثمانين من كتابه “عرق ذهني”، حتى الرسومات المرفقة بالنصوص للرسام وليد الزواري كانت منسجمة تماما مع روح نصوصه المستفزة واللاذعة. قصيدة يوسف خديم اللٰه هي قصيدة تذهب إلى الآذان عن طريق الأذهان، قصيدة ضد الطمأنينة، ومخربة لليقينيات، إذا خُيرت بين نقطة الوصول والطريق فإنها ترفضهما معًا، وتختار الحذاء. وإذا خيرت بين الشجرة وظلها، فإنها تختار الشمس. يأتي كتاب “عرق ذهني” بعد قرنين تقريبا من تاريخ كتابة آخر نص فيه تقريبا، لكنه لم يفقد حرارته وهذه ميزة النصوص الأصيلة والمؤسسة، فيوسف خديم الله يعتبر أحد شعراء قصيدة النثر المجددين في الشعر العربي والذين أحدثوا نقلة فارقة في القصيدة العربية، ودخلوا إلى المناطق القاسية في الفكر الإنساني، وهندسوا طرقا مبتكرة محطمة القوالب الجاهزة التي تجعل من الكتابة مجرد تمارين مكررة تؤطرها قوانين السابقين.

مشاركة :