أمثل اسماعيل هو واحد من الشعراء اللبنانيين الجدد، صدر له أخيراً ديوانان في آن واحد هما: «الحياة وما يشبهها» و«قلب في أجساد عدة» (دار نلسن - بيروت). وقولنا إنه من الشعراء الجدد، لا يعني أنه قريب العهد بالنشر، بل يعني الجدّة في القول الشعري، وهذا الجديد، على وجه الدقة، هو الذي نرغب في إماطة اللثام عنه هنا، وروزه بمعيار الشعر والحداثة، في زمن الهذر الكثير، والمضائق الشعرية المختنقة، وتسيّب الساحة. يتذرّر الشعر اليوم بين شذرات الفايسبوك، وحلقات المريدين المحصورة، وغروب الستينيين المؤسسين للحداثة الأولى بالموت على التوالي، اما الباقون من مؤسسي الحداثة الثانية والثالثة، فهم على ارائكهم جالسون، ولا يلوح لي أن ثمة عيناً أبوية تتابع أحفاد الحداثة، أو تتعرف عليهم. فهم متروكون لمصيرهم بلا هوادة. بل كل ما فعله بعض الآباء الحقيقيين، هو الاعتراف بالخطأ، وهو فضيلة سلبية. كان أدونيس في مرات عدة، ينكر وجود قصيدة نثر عربية، وينكر كتابته لها، بعد أربعين عاماً وأكثر من التحريض النقدي المنحاز إليها ( في مجلة «شعر» ومجلة «مواقف» ). ثم، فجاة، وقبل صياح ديك قصيدة النثر، أنكرها صاحبها ثلاثاً. مثله فعل تقريباً انسي الحاج، وهو فتى قصيدة النثر العربية بلا منازع. فهو قبل ثلاثة اشهر من موته، كتب «اعتذاراً» شديد اللهجة عما اقترفه من تنظيرات اعتباطبة في شأن لا يحتمل إلا التواضع كما يقول. و»ما جاء استنادنا (يكمل الحاج ) أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلا إغراقاً لنا في جملة أخطاء ... ونحن معشر ديوك الحداثة أجهز أولادنا على البقية بعد ما فتحنا صندوق باندورا واندلقت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القشّ أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر» (الأخبار اللبنانية، خواتم 3، مقالة «كلما جرحت هذي البرتقالة، تتبسم»). هذه الشهادة التي كتبها شاعر إشكالي مؤسس لقصيدة النثر العربية، وطعم الموت في فمه، هي بمثابة اعتراف خطير بأن القصيدة التي يكتبها الآن الغالبية الساحقة من الشعراء العرب، بنسبة تتجاوز التسعين في المئة، تعاني من عطب خطير، وأنها بعد تجاوز ستين عاماً من تجربتها المثيرة، وصلت إلى مضيق شديد الصعوبة، لا يقل عن مضيق قصيدة الوزن حرجاً وخطورة. أمّا أمثل اسماعيل فهو يكتب في ديوانيه المذكورين قصائد نثر، فما معنى ذلك؟ وكيف؟ يصف الشاعر نصوصه الستة بالمنمنمات، ويرقمها بالأرقام، لأنّ أساس صنيعه الشكلي هو «الشذرة»، ولعلها هي ثمرة الفايسبوك الذي أشاع فكرة البارقة السريعة بين عدد أكبر من المتعاملين، ما يغير معنى الجمهور التقليدي، و يعدّل معنى المتلقي. فيحلّ محله التفاعل السريع والمباشر والواسع . بعد النص الإلكتروني المرتجل جاء ما يسمى النص الانغماسي texte immersif وهو النص الذي يستولي على من يصل إليه لأنه يخاطب حواسه وتفكيره بصورة متنوعة. الصورة والصوت والنص المكتوب والحسّ المباشر عبر نبضات كهربائية تضرب الجلد مثلاً، وفي نصوص أمثل اسماعيل المسماة «منمنمات» شيء مما ذكرناه، إنما على الورق. ويضاف إلى ذلك الإحساس بالوحدة أو التوحد رغم الشبكة العنكبوتية الواسعة، وتناول المفردة من مقلعها الميسور السائر ( من العامية أو الأجنبية احياناً )، مثل «أقرقط حواف الوجع»، «الكبرت، اشتقتها فصعونتي بكثير سعدنتها»، «ان برافو»، «يا إخوة الشحطة»، «خيش الألم» ... وقد يكون شوقي أبي شقرا واحداً من أبائه، لناحية تناول الكلمات من مقلعها اليومي و العامي، والرعوي أحياناً. وأيضاً نزار قباني، مع ما لحق بالجينات الشعرية المسافرة في أصلاب الشعر، من تغير و تبدل مع الزمن، وهو تغير في النوعية على وجه الدقة. ما يفاجئك في قصيدة «الخندق الذهبي»، هو اللارمنطيقية في الحبّ. اكاد أقول قصيدة «اللاحب» في مجال الحب، والفكرة عميقة بلا ريب. و لعلّ المؤسس العظيم لمثل ذلك هو بابلو نيرودا حين يقول : «أحبك لأنني لا أحبك. أحبك يا مكروهتي». وفي قصيدة أخرى لنزار قباني يقول: «أكرهها وأشتهي وصلها/ وإنني أحب كرهي لها». أما أمثل اسماعيل فيقول في المنمنمة 18 من قصيدته المذكورة: «صداقة قاسية تجمع بينهما/ رفيقته اللدودة/ يتشاركان الصمت المسنن/ وينمو بينهما الحب الدفين» ... ثم تلي بعد ذلك عبارات الحب القاسي المضرج بدم وهزائم مثل قوله «فلول الغرام المحيطة بالعاشقين» و«قلبها فاغر» وهي «مصلوبة على نفسها»... إنّه حب قاسٍ وغالباً هو حب الضد. «أيّ حوار؟» يقول. «القلب رمانة ملآنة بظلال النصال وعلى جبينه لزمانها خطان»... أما في المجموعة الثانية «قلب في أجساد عدة»، فأول ما يأخذنا إليه العنوان هو، قول عروة الصعاليك في معلقته: «أوزع جسمي في جسوم كثيرة «، لكنّ الأمر عند اسماعيل مختلف بقوة عن صعلكة ابن الورد. إنه هنا صعلوك جسد ومتعة إروسية منفلتة من عقالها، وهو إذ يهدي ديوانه إلى نفسه «إليّ»، ويفتتحه بشذرة «جغل مع وقف التنفيذ»، فإنه ينغمس انغماساً بلا حساب في الجسد الأنثوي المحض. وبكلّ حسياته بأسمائه وصفاته وأعضائه. وبكل حسياته بلا أي تجريد او كناية، بلا مجاز. وحتى الاستعارة التي يستعملها «بقلاوة العذاب» تشدّ إلى حاسة الذوق. والقصيدة الأكثر إثارة يسميها «الامرأة القابلة للأكل»، بهذا يكون الجسد الأنثوي وحده، ولا شيء غيره، في أوصافه وأعضائه، هو أساس نص أمثل اسماعيل، إنه جسد ليُشم ويُلمس ويُرى ويُسمع ويُؤكل (بتعبيره) لذلك قصيدته هنا قصيدة «شرهة». نستطيع أن نعتبر قصيدة أمثل اسماعيل قصيدة مفترسة. وبعيداً من الالتواءات التعبيرية التي يستعملها مثل قوله :«وأنا اشتقتك يا الحبي/ اشتقتك كم»، وهي في ميزان التجديد ضعيفة، فإنّ له ضربات تعبيرية أخرى تأتي فرادتها من تلك المباشرة وتلك الصدوع في الجسد الأنثوي بلا مواربات ولا توريات. شعر
مشاركة :