الفنان التشكيلي عبدالرسول سلمان يبدو كما لو أنه قبطان يقود قافلة من المراكب وليس مركبا واحدا لدوره التاريخي في الحركة الفنية الكويتية.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/12/30، العدد: 10856، ص(13)]عبدالرسول سلمان الرسام الذي قاوم من خلال الفن حضوره القوي متعدد الوجوه. فهو فنان محترف وناقد ومؤرخ وإداري منظَم ورجل قضية وخبير في الفن التشكيلي في العالم العربي. أما كيف يتمكن من أن يجعل كل تلك الوجوه منسجمة، بعضها مع البعض الآخر فهذا هو سره الذي صنع منه بالنسبة للبعض من فناني بلده أيقونة وطنية معاصرة. ارتبط اسمه بالجمعية الكويتية للفنون التشكيلية غير أن صفته رئيسا لتلك الجمعية لا تكفي لوصف دوره التاريخي في الحركة الفنية في بلد عُرف بتاريخه الفني وغزارة نتاج فنانيه على اختلاف مشاربهم. لذلك يبدو عبدالرسول سلمان كما لو أنه قبطان يقود قافلة من المراكب وليس مركبا واحدا. براعته في القيادة منذ عام 2004 حين تم انتخابه رئيسا للجمعية الكويتية للفنون التشكيلية مستلهمة من عمق صلته الإنسانية بالفنانين ومعرفته الدقيقة بتاريخ الحركة الفنية. واقعيته النقدية وتعبيريته في الرسم هما انعكاس لأسلوبه في الحياة. فالرجل الذي يقبل عليك بمحبة وتواضع ورقة يمتلك من المعرفة والخبرة ما يؤهله للإمساك بطرف مهم ورئيس من الحقيقة. هو ذلك الطرف الذي يعري الوجوه من قناعها مهما كان ذلك القناع صلبا. ذلك لأن الرسام الذي يسكنه غالبا ما يمتزج بالمؤرخ الذي حرص على أن يلقي الضوء على اللحظات المشرقة في تاريخ الكويت من خلال الكتابة عن رسامين ونحاتين صنعوا جزءا عظيما من الوجدان والعاطفة والخيال الكويتي. ما فعله سلمان يوم تعرض بلده للغزو والاحتلال يضعنا أمام نموذج مثالي للفنان الذي يهب نفسه لقضية شعبه. فحين حمل لوحاته وصار يتنقل بين المدن العالمية، شرقا وغربا، كانت الكويت التي غيبت عنوانا لحضورها التاريخي الذي اكتسب معاني جليلة من خلال الفن. فتيا لا يزال. سلمان هو مشروع ثقافي تتراكم خرائطه، بعضها فوق البعض الآخر غير أن كل ذلك الركام يشف عن شيء وحيد هو الذي يمثل الجوهر. ذلك الشيء هو الرسم. سيرة منفتحة على العالم ولد سلمان في منطقة شرق بالكويت عام 1948. أنهى دراسته في دار المعلمين عام 1973. ثم انتقل إلى القاهرة ودرس النقد الفني فيها ليعود إلى الكويت عام 1976 وليعمل في مجال تدريس التربية الفنية. بعد أكثر من عقدين سيدرس الفنون في فلوريدا بالولايات المتحدة لينال شهادتي البكالوريوس (1998) والماجستير (2001).رسوم عبدالرسول سلمان تمثل تحولات الحياة في الكويت إلى جانب الرسم كانت الكتابة قد شكلت هاجس حياة بالنسبة له فكان ينشر مقالاته في الصحف اليومية المحلية والعربية. وهو ما جعل منه ناشطا في التبشير بالاتجاهات الفنية الحديثة في الكويت والعالم العربي. استهل مسيرته في الكتابة بكتاب “مسيرة الفن التشكيلي بالكويت” الذي صدر عام 1975. بعد ذلك الكتاب أصدر كتبا عديدة عن جماعات وظواهر فنية خليجية وفنانين كويتيين رواد كان من أبرزهم عيسى صقر وخليفة القطان محمد الأيوبي وعبدالله القصار. وإذا ما كانت علاقة سلمان بالجمعية الكويتية للفنون التشكيلية التي يرأس مجلس إدارتها اليوم تعود إلى عام 1969، فإنه حرص على أن يكون جزءا من النظام العالمي الذي يدير حركة الفنون التشكيلية. فكان عضو الرابطة الدولية التابعة لليونسكو بباريس منذ عام 1982 وأصبح بعد ذلك نائبا لرئيسها وكان عضو جمعية الفنانين باورلاندو بأميركا منذ عام 1997 وعضو متحف سامثون بكاليفورنيا منذ عام 1998 وعضو تيت غاليري بلندن ما بين سنتي 2004 و2008. نال هذا الفنان الكويتي جائزة الشراع الذهبي الأولى أربع مرات، كما حصل على جوائز عربية عديدة غير أن جائزته الحقيقة تكمن في ذلك الموقع الذي يحتله في قلوب محبي الفن التشكيلي في الكويت والعالم العربي على حد السواء، وهو ما أهله لكي يكون رئيسا لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب الذي كان عضوا فيه منذ تأسيسه في بغداد 1973. سيُقال إن ما سيبقى من سلمان هو الفنان. أي أن فنه هو ما يبقى منه. وهو قول صحيح غير أنه قول ناقص. فالفنان الذي خدم الآخرين بالقوة التي خدم من خلالها فنه كان مشدودا لطموحه في تأسيس بيئة اجتماعية وثقافية صحية تستقبل الفن التشكيلي وتحتفي به وتضعه في المكان الذي يستحقه من أجل أن بصل إلى أهدافه في الرقي بذائقة المجتمع الجمالية. وهو ما أظن أن سلمان نجح في إنجازه عبر مسيرة امتزج فيها الخاص بالعام، فكان مشروعه يتخطى حدود مرسمه الشخصي ليبشر بكل ما أنجزه الآخرون، روادا كانوا أم فنانين صاعدين. لقد انحنى من خلال كتاباته للأموات والأحياء بقوة الإنصاف نفسها. وهو ما وهب شهادته طابعا مؤثرا. ذلك لأنه لم يعش الفن منحازا لنفسه بل عاشه باعتباره الشاهد الذي يؤرخ للتحولات. لقد رسم سلمان تحولات الحياة في بلده وكان وفيا للمشاهد التي رآها وعاش تفاصيلها العاطفية وكان لها وقعها في مسيرة حياته، إذ كانت ملهمته في عالمه المتخيل الذي ميزه عن سواه من الفنانين الكويتيين والخليجيين الذين اهتموا برسم الموضوعات ذاتها التي رسمها، غير أنه لم يكتف بذلك الإنجاز الذي اعتبره ضيقا فكان مشروعه هو نواة لبعث الحياة في جسد التشكيل العربي بدءا من معارض الجماعات الفنية الخليجية التي كان رائدها. حين زلزلت الأرضكان وفيا للمشاهد التي رآها وعاش تفاصيلها العاطفية دائما كان الفنان الذي عشق بيئة بلاده وشيد عالمه بإلهام مفرداتها القليلة، يحضر مشتبكا بصفاته كلها فتتداخل وجوهه، غير أنني على يقين من أن وجه الرسام هو الأقرب إلى روحه. ما الذي يمكن أن يفعله الفن في الأوقات العصيبة؟ في تجربة الفنان سلمان شيء من الجواب على ذلك السؤال الصعب. فحين زلزلت الأرض تحت أقدام الكويتيين وحلت كارثة الاحتلال منتصف عام 1990 كان الفنان في جولة فنية خارج الكويت. لفنان الذي كرس فنه ونفسه وفكره من أجل ترسيخ هويته الإنسانية وجد نفسه في مواجهة مريرة مع سؤال هوية وطنه التي صارت مهددة. لم يشعر بالإحباط واليأس بالرغم من أن الكارثة كانت أكبر من كل الأدوات المتاحة التي يمكن استعمالها. لم يكن لديه سوى الفن، سلاحه الوحيد في مواجهة العواصف. دفعته ثقته بالفن إلى أن يستعيد الكويت وطنا، لكن من خلال الفن. ضربة مزدوجة استطاع الفنان من خلالها أن يضع فنه في خدمة قضية شعبه من جهة ويعلي من جهة أخرى من شأن الفن باعتباره مخلصا ورفيق درب وفي في الأوقات الحرجة. في وقت قياسي أقام سلمان عشرة معارض دفاعا عن قضية بلاده في مدن عربية وعالمية مختلفة. لقد وهبته الغربة المؤلمة التي شعر بها رغبة عارمة في السفر بين المدن لتصل صرخته الجريحة إلى كل بقاع الأرض، من دمشق إلى ساوباولو مرورا بواشنطن وأوتاوا والدوحة وأثينا وبيروت. ستة أشهر من الألم عاشها عبدالرسول سلمان حاملا لوحاته من أجل أن يقترب من لحظة عودته إلى بلاده. لقد قدم سلمان يومها نموذجا صحيا للفنان المقاوم الذي يجب أن نتعلم منه. “أما تعبت يا عبدالرسول؟” ما من فنان عربي تهبه ثقته بالفن حياة مضافة مثلما تفعل مع الفنان الكويتي الذي هو “داينمو” الحياة الفنية في بلاده وهو الذي يخطط لإحياء اتحاد التشكيليين العرب الذي وأدته السياسة. في الوقت نفسه لا يكف سلمان عن إقامة الملتقيات الفنية واستقبال العشرات من الفنانين العرب في الكويت. كما في أشهر الاحتلال المريرة يسابق عبدالرسول نفسه ليكون حاضرا بقوة فنه وتوقه إلى أن يكون الفن هو اللغة التي تسهر على أحلامنا. لقد وهب عبدالرسول نفسه إلى مخيلة الفن فصار واحدا من أجمل حراسها.
مشاركة :