الانطباعي الفرنسي شق طريقا لخيال الفن وسط عبقرية الطبيعة فكانت جفيرني هي ثمرة ذلك الامتزاج الذي يُنظر إليه اليوم باعتباره متحفا طبيعيا لفن مونيه.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/08/06، العدد: 10714، ص(10)]زهور مونيه المائية في قريته الفرنسية لندن - أن ترسم زهرة مثلما فعل الانطباعي الفرنسي كلود مونيه فذلك معناه أنك ترسم العالم كله، ما ظهر منه وما خفي. في جفيرني غرب فرنسا على بعد أربعين ميلا من باريس تقع حديقته. هناك يمكن أن نرى زنابق الماء التي رسمها. كل شيء يذكر به يُخيّل للمرء وهو ينظر إلى تلك الزهور المائية كما لو أنه يقف أمام واحدة من لوحاته الكبيرة مع ملاحظة غياب لمساته الخلاقة. حين انتقل كلود مونيه إلى تلك القرية في النصف الثاني من حياته فعل ذلك بحثا عن إلهام مختلف من أجل أن يرى بطريقة أفضل غير أن عينيه خذلتاه يومها. لقد بدأ بصره بالتراجع. لا يمكن أن تكون اللوحات التي رسمها مونيه هي من اختراع رجل قرر أن يرى العالم بطريقته وهو في طريقه إلى العمى. لقد زرت جفيرني فلم أرها إلا بعيني مونيه. كانت لوحاته ماثلة أمامي في الطبيعة وكنت أفكر بإلهام يديه الذي أضفى على الطبيعة خيالا هو ليس من طبيعتها. ما فعله مونيه أنه وضع قرية منسية في سجل التاريخ الفني إلى الأبد. يمكنك أن ترى تلك القرية من غير أن تذهب إليها. لقد وزعها مونيه قطعا ساحرة بين لوحاته. حين يذهب المرء إلى جفيرني فإنه يتمتّع بما كان مونيه قد رآه غير أن تلك المتعة شيء ومتعة رؤية لوحاته شيء آخر.كلود مونيه حين انتقل إلى تلك القرية في النصف الثاني من حياته فعل ذلك بحثا عن إلهام مختلف من أجل أن يرى بطريقة أفضل غير أن عينيه خذلتاه يومها. لقد بدأ بصره بالتراجع كل شيء في جفيرني يذكّر بمونيه، كما لو أنه كان خالقها. لا ينفع أن تقول إنها كانت موجودة قبله ولا تزال موجودة بعده. في جيفرني تتأكد تلك العلاقة الشفافة والمرآتية بين الطبيعة والفن. لقد ألهمت جيفرني مونيه فرسمها غير أن لوحاته أضفت على القرية الفرنسية الهادئة فتنة مضافة. جفيرني هي زنابق مائها التي رسمها مونيه. جنته الرعوية هناك لو لم يقم فيها كلود مونيه لما كانت جفيرني. الرسام الانطباعي الذي أسرته فكرة الرسم في الهواء الطلق كان منذ عام 1872 قد شق طريقا جديدة للرسم تقع خارج التقاليد الفنية التي كان صالون باريس بمثابة حارس لها. كان إلى جانبه يومها مانيه وديغا ورينوار وسواهم من الشباب الذين رفض الصالون المذكور عرض لوحاتهم التي اُعتبرت مسيئة للتقاليد الفنية. مسيرة كلود مانيه (1840ــ1926) كان عنوانها “انطباع، شمس مشرقة” وهو عنوان لوحته المرفوضة التي ألهمت النقاد التسمية التي صارت لصيقة بالتحول الكبير الذي شكله ظهور جيل من الرسامين الفرنسيين بأفكار وتقنيات وموضوعات وطريقة نظر جديدة. بعد الانطباعية لم يعد الرسام يُحضر الطبيعة إلى مرسمه من خلال استحضارها بل صار يذهب إليها. تحول خطير منح الرسامين حرية التعرف على طبيعة، كانت تعيش تحولاتها كل لحظة. ما صنعه مونيه على سطوح لوحاته دفعه إلى أن يقوم بإعادة صياغة مفاهيمه الجمالية على الأرض مباشرة من خلال جنته الرعوية في جفيرني. البلدة التي استقر فيها عام 1883 ولم تكن بعيدة عن باريس. وقد يكون لافتا أن البلدة التي خُيّل لمونيه أنها ستكون من اختراعه، وهي كانت في جزء منها كذلك كانت في الوقت نفسه مصدر إلهامه في النصف الثاني من حياته، حين استغرق في رسم اللوحات الكبيرة الأربعين التي لا تزال المتاحف العالمية تتنافس في ما بينها على عرضها، وهي أعظم أعماله. حديقة مونيه أو حدائقه التي تحيط بمنزله هي العنوان الوحيد الذي لا يحتاج زائر جفيرني البحث عنه. لقد حول الرسام القرية المهجورة إلى تحفة نباتية. كانت صنيعته التي سلّمها روحه باعتباره بستانيا مخلصا. ولم تكن أفكاره عن الرسم بعيدة عن فكرته عن حديقته الخاصة. لقد امتزج مونيه الرسام بمونيه البستاني بطريقة مدهشة فكانت النتيجة طبيعة يدخل إليها المرء كما لو أنه يخترق إطار واحدة من لوحات مونيه ذاهبا إلى أعماقها. أنظر إلى الرقع الملونة في تلك الحدائق فأشعر أن ضربات الرسام تلاحقني. فوضى تؤلف نظامها بعناية. جهد رجل قضى عقودا من حياته وهو يستثمر خياله في الأرض والرسم معا.حديقة مونيه أو حدائقه التي تحيط بمنزله هي العنوان الوحيد الذي لا يحتاج زائر جفيرني البحث عنه. لقد حول الرسام القرية المهجورة “هذا مكان للعبادة” قلت لنفسي وقد غمرني الخشوع. لقد وهب مونيه هذه السجادة المُحاكة ببراعة إلى الطبيعة وبالقوة نفسها عرف كيف يستعيرها في فنه الذي سينتقل بها حول العالم. ضربات فرشاته لا تزال تقع على سطح البحيرة كما لو أنه لا يزال يرسم. عام 1890 بدأ مونيه في النظر إلى حديقته بطريقة استلهم من خلالها مشاهد مستعارة من حدائق يابانية. وهو ما يذكر بفنسنت فان كوخ الذي تأثر بالمحفورات الخشبية اليابانية. الأمر الذي يؤكد أن الالتفات إلى اليابان لم يكن يومها نوعا من الاستشراق. شق مونيه من النهر بحيرة ملأها بزنابق الماء وأحاطها بأشجار الصفصاف وشيّد جسرا صغيرا، رسمه في واحدة من لوحاته. كانت معجزته النباتية تكبر وتتسع بين يديه في الطبيعة وعلى سطوح لوحاته في الوقت نفسه. لقد مشى البستاني بقدمي الرسام وفعل الرسام الشيء نفسه. الزاهد بباريس من غير أن يخطط صنع مونيه لبلده فرنسا موقعا سياحيا يرتاده الزوار لأسباب مختلفة. كانت الحافلة التي أقلتني تضم بشرا لم يسمعوا بالرسام الانطباعي ولا تهمهم رسومه. هناك مَن جاء مبهورا بسمعة القرية التي اشتهرت بمناظرها الطبيعية وهناك مَن كان مهتما باكتشاف أنواع جديدة من النباتات وهناك بالطبع مَن جاء لزيارة منزل الرسام الشهير الذي قضى نصف حياته منسجما مع حياة ريفية وزّعها بين الاهتمام بحديقته والرسم وعائلته التي تتألف من زوجته أليس وأبنائه الثمانية. قاربه لا يزال هناك. وهناك حكايات عن الدجاجات التي كان يربيها من أجل الحصول على بيضها. ابن بقال باريسي تحول إلى رسام مشهور غير أن شغفه بالرسم في الهواء الطلق قاده إلى الريف من أجل أن يكون الرسم أشد إخلاصا إلى الطبيعة. لقد اعتكف مونيه هناك زاهدا بباريس. كان لديه ما يفعله من أجل الجمال. بلوحات جفيرني اختصر مونيه الطريق التي تؤدي إلى الحداثة. كان الرسم الخالص هاجسه الذي قاد في ما بعد إلى التجريد. نظرة سريعة إلى زنابقه المائية لا بد أن تقود إلى أنه لم يكن معنيّا برسم تلك الزهور بقدر ما كان معنيا برسم إيحاءاتها البصرية. وهو ما شكل مصدر إلهام بالنسبة لمن تلاه من الرسامين التجريديين. هناك قرى وبلدات قد تضاهي جفيرني جمالا غير أن سحرها يكمن في أنها من اختراع رسام تخيّلها قبل أن يرسم لوحاته المستوحاة من مناظرها. فهل كان مونيه قد حلم بطبيعية تعينه على الإلهام الجمالي أم أنه وقف مبهورا أمام ما صنعته يده فقرر تخليد صنيعه؟ من رأى لوحات مونيه قبل أن يزور جفيرني لا بد أن يغمره شعور عظيم بالارتباك بسبب عدم قدرته على التفريق بين ما هو فني وما هو طبيعي. إن استجاب لما هو طبيعي يكون مونيه كما لو أنه لم يفعل شيئا وإن استجاب لما هو فني تبدو الطبيعة كما لو أنها اقتراح بشري. المؤكد أن الانطباعي الفرنسي الحالم بالشمس كان قد شق طريقا لخيال الفن وسط عبقرية الطبيعة فكانت جفيرني هي ثمرة ذلك الامتزاج الذي يُنظر إليه اليوم باعتباره متحفا طبيعيا لفن مونيه.
مشاركة :