الرسام السوري اتخذ من الرسم وسيلة للرزق اليومي أصبح بسبب تلك الالتفاتة الذكية واحدا من أشهر رسامي سوريا في العالم.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/05/28، العدد: 10646، ص(10)]أبوصبحي التيناوي ابن المنمنمات الطالع من بين سطور الحكواتية لندن - النظر إليه بطريقة مختلفة صنع أسطورته. كان من الممكن أن يعيش أبوصبحي التيناوي حياته كلها رساما مغمورا تنتشر رسومه في المقاهي والبيوت الشعبية لولا أن هناك مَن وجد في تلك الرسوم شيئا أصيلا مختلفا عمّا كان الرسامون السوريون يفعلونه. الرجل الذي اتخذ من الرسم وسيلة للرزق اليومي أصبح بسبب تلك الالتفاتة الذكية واحدا من أشهر رسامي سوريا في العالم. كما أن الرسام الذي لم يتعلم الرسم بل إنه لم يتعلم القراءة والكتابة مارست رسومه تأثيرا قويا على تجارب الكثير من الرسامين السوريين والعرب. روسو الفن العربي "الرسام أبوصبحي التيناوي. باب الجابية. زاوية الهنود. دمشق. سوريا " كل هذا توقيعه الذي كان يعتقد أنه غير قابل للتزوير. وهو ما لم يكن مزورو الأعمال الفنية ليهتموا به لو أن الرجل بقي أسير عالمه الأول. وهو عالم المهنة التي ورثها عائليا ولم تكن لتخرج صاحبها من دائرة الفقر. تسليط الضوء المفاجئ على رسومه صنع منه هنري روسو الفن العربي في إشارة إلى الرسام الفرنسي الذي عاش بين سنتي 1844 و1910 وكان هو الآخر فطريا. حين لفت عدنان الأحمد، صاحب غاليري كلمات “حلب-إسطنبول” نظري إلى التيناوي كنا في إطار مراجعة مصطلح “فن عربي” الذي غالبا ما يُستعمل بطريقة عشوائية، من غير أن ينطوي على دلالة مؤكدة. التيناوي بالرغم من كل الصفات التي تسبق اسمه “الفطري، الشعبي، العفوي” هو فنان لا يمكن إنكار اتصاله بفن لم تنقطع جذوره التي تمتد إلى مقامات الحريري التي زينها يحيى بن محمود الواسطي برسومه في القرن الثالث عشر الميلادي. لم يخترع التيناوي شيئا ولم يأت بجديد. كل ما فعله كان قد ورثه من أبيه وهو ما أضفى على تجربته طابع الأصالة التي يشير إليه مصطلح “فن عربي”. الرسام وأسرار المهنة لم يكن مطلوبا من التيناوي أن ينتج فنا حديثا لكي يحظى بشهرته غير المسبوقة وبالتقدير من قبل المثقفين وهو ليس جزءا منهم. كانت معجزته تنبعث من مكان آخر. هو المكان الذي كان العرب يعوّلون عليه نظريا من غير أن يهتدوا إليه عمليا. ابن المنمنمات هو الذي اهتدى وحده إلى ذلك المكان الخفي، من غير أن يكون في حاجة إلى النظريات.فن يجسد المفاهيم الشعبية ولد أبوصبحي واسمه الحقيقي محمد أحمد حرب عام 1888. منذ طفولته كان يحمل لقب التيناوي الذي أطلقه عليه أبوه بناء على عادة شعبية سورية محببة. لم يدخل المدرسة وكان أميّا. تعلّم الرسم على يد والده وكان يمارسه منذ صغره في دكان والده الذي يقع في الحارة الدمشقية التي سيقيم فيها كل حياته فقد صارت جزءا من إمضائه الشخصي. لم ير المهتمون بفنه الكثير من رسوماته التي كان الزبائن يحملونها مباشرة من الدكان إلى بيوتهم أو تعلّق في المقاهي الصغيرة الجانبية. كان فنه جزءا من حياة مدينة لم تنقطع صلتها بالحكايات الشفاهية. كان التيناوي حكواتي تلك المدينة لكن عن طريق الرسم. في ستينات القرن العشرين وبعد أن ذاعت شهرته بسبب إقبال اللبنانيين والأجانب على اقتناء أعماله تمت طباعة رسومه تجاريا ليتمّ توزيع تلك النسخ بأسعار رخيصة وهو ما حفظ صورا عن إرثه الفني الذي كان يحظى إلى زمن قريب باهتمام العوائل الريفية. رسم التيناوي على الورق الأسمر والقماش والزجاج وكان مثل كل حرفيي الشرق لا يفصح عن أسرار تقنياته، خاصة وأنه كان يصنع أصباغه بنفسه. في سنواته الأخيرة ازداد الطلب على أعماله فاستعان بأفراد أسرته في إنجاز رسومه. توفي الفنان عام 1973 بعد أن نال شهرة لم يكن يتوقعها. ابن المخطوطة في غيابها لم تكن ظاهرة أبوصبحي التيناوي لتغادر فضاء باب الجابية، لو أن الأمر تُرك للرسام نفسه. لم يكن الرجل معنيا بإقامة معارض لأعماله التي لم يكن يعنيه مصيرها ما أن يقبض ثمنها. وهو تقليد قديم تربّى عليه الفنان ولم يخترقه. فنان السوق هو فنان الحياة المباشرة وهو في الوقت نفسه زاهد بأعماله. أما المعارض التي عرضت فيها أعماله فقد كانت من فعل الآخرين. لربما لم يُسعد التيناوي بأخبار معارضه الشخصية التي لم يحضرها بقدر ما أسعده الإقبال الكبير على اقتناء أعماله. بالنسبة للتيناوي فإن كل ما قام به هو نوع استثنائي من العمل الذي يتطلب خيالا تصويريا خاصا غير أنه لا يتخطى أهداف المهنة التي تنحصر في كسب العيش. كان الرجل حكواتيا من طراز خاص. فبدلا من أن يروي الحكاية الشعبية صار يرسمها. لذلك صارت رسومه تعلّق في المقاهي لتكون بمثابة وسائل توضيح للحكايات التي كانت تُروى بلغة عربية فصيحة. أبو زيد الهلالي وعنتر وعبلة والزير سالم أبطال رسوم التيناوي فكان أبطال تلك الحكايات حاضرين من خلال رسوم التيناوي. أبو زيد الهلالي وعنتر وعبلة والإمام علي وعمر بن ودّ العامري والزير سالم وذياب بن غانم والزناتي خليفة والنبي داوود وابنه سليمان والظاهر بيبرس وسواهم من أبطال الحكايات الدينية والشعبية. كان في حقيقته مزوّقا وإن لم تأخذ رسومه طريقها إلى الكتب الحكائية مثل كتابي كليلة ودمنة ومقامات الحريري اللذين زوقا بأعظم الرسوم التي تم من خلالها التثبت من أن العرب كانوا قد عرفوا الرسم في أزمنة صعودهم الحضاري. ظهر التيناوي في الزمن الذي انتهت فيه تقنية المخطوطة بعد أن حلّت الكتب المطبوعة محلها. لولا الطباعة لكان التيناوي واحدا من أعظم مزوّقي المخطوطات العربية. لذلك يمكن القول إن ابن دمشق القديمة ينتمي إلى زمن آخر، وهو ما يؤكد أصالة فنه. حافظ التراث ومبدعه اكتشاف أبوصبحي التيناوي في ستينات القرن الماضي لم يكن بالنسبة إلى الفنان نفسه سوى مناسبة متأخرة لزيادة دخله من مهنة سلّمته إلى شيخوخة مريحة. فمَن يصدّق أن المرء يمكن أن يعيش من الرسم في بيئة شعبية؟ هذا ما نجح التيناوي في القيام به. غير أن ذلك الاكتشاف كان مدوّيا في موقع آخر لن تصل إليه عينا الفنان الذي لم يكن يتابع مصير رسومه. لقد جرى اكتشاف التيناوي في مرحلة كان البحث عن هوية عربية للفن واحدا من أهم عناوينها. كانت رسوم التيناوي بمثابة لقية معاصرة لدعاة الفن العربي. بسببه لم يكونوا في حاجة إلى العودة إلى رسوم الواسطي كما فعل العراقي جواد سليم (1919 ــ1961) في خمسينات القرن الماضي. كان الفن العربي حاضرا بين أيديهم ومعاصرا لهم، معروضا في أماكن العيش المباشر، بين الناس الذين أنتج من أجل تسليتهم بصريا. وهنا ظهر تأثير تلك رسوم واضحا في عدد من تجارب الرسامين العرب. كان أبرزهم رفيق شرف من لبنان وحلمي التوني من مصر ويُشاع أن رسامين من سوريا كانوا قد استنسخوا رسوم التيناوي وادّعوها لأنفسهم. ربما زعم البعض أن التيناوي وقد كان يعيد رسم ما رآه مرسوما من قبل لم يكن سوى ناقل لتراث شعبي وصانع لا يرقى إلى مرتبة المبدع وهو قول يخفي حقيقة أن الرجل قام بدور استثنائي في حفظ التراث الفني من خلال إعادة إنتاجه مضفيا عليه الكثير من شغفه الروحي الذي ظهر من خلال أسلوبه الذي لم يكن مقيدا كما صوّره الآخرون. لم يعرف التيناوي الرسم الغربي. رسومه تثبت أن الرسم لم ينقطع في الحياة العربية. كان موجودا بقوة إلهام وظيفته في الكشف خيال الحكاية بصريا.
مشاركة :