في هذه المرحلة التعيسة التي يمر بها العراق من الفساد والإرهاب والفوضى، علينا أن نتذكر بالخير مرحلتين من النزاهة والاستقامة مرت بهما البلاد. كانت الأولى في العشرينات تحت ظل الانتداب البريطاني، والثانية في السبعينات في عهد صدام الأول حتى قيامه بغزو إيران. الحكم المتمدن في عهد الانتداب أبعد الفساد عن العراق عملا بالقول: «الناس على دين ملوكهم». الموظفون الإنجليز معروفون عالميا بالنزاهة. وسرى مفعول ذلك على الموظفين العراقيين. أما في عهد صدام فالإرهاب أبعد الموظفين عن الخوض في الفساد. كيف جرى ذلك؟ أسوق لكم هذه الحكاية من معرفتي الشخصية. كان أخي مؤيد - رحمه الله - يعمل مقاولا في تنفيذ مشروع للدولة. وكان هناك المهندس المقيم يمثل الحكومة في التأكد على دقة العمل. وهو ميدان خصب للرشوة والفساد في سائر جهات العالم. في طريق عودته من العمل صاحبه المهندس في سفرته. راح خلالها يشكو لأخي عن ضيق أحواله المالية والتمس منه أن يسعفه بمبلغ 30 دينارا. سلمه المبلغ. بعد سويعات قليلة داهمت شرطة الأمن البيت واعتقلت أخي لقيامه برشوة موظف. بعد بضعة أيام في السجن، واجهه حاكم التحقيق بالتهمة وأسمعوه شريطا مسجلا للمكالمة خلال سفرته. تبين أن أجهزة الأمن نصبت فخا له بجهاز تسجيل مخفي لإثبات الرشوة. بيد أن مؤيد استطاع أن يقنع القاضي بأن الموضوع لم يكن سوى قرضة حسنة سلمها للمهندس بناء على طلب بلسانه. وأنه كان ينتظر تسديد القرض منه. اقتنع القاضي وأمر بإطلاق سراحه، في يوم من أيام عدالة حكم صدام في السبعينات. لم يستعمل صدام حسين - والحق يقال - أجهزة مخابراته وأمنه، لقمع المعارضة وحرية الفكر فقط، بل وكذلك في تنزيه البلاد من الرشوة والفساد. وذهب خلال الحملة كثير من الضحايا، منهم من أودع في السجن ومنهم من تعرض للتعذيب ومنهم من علقوه على المشانق. وبعضهم أبرياء كليا. تعرضوا لذلك عملا بمثل زياد ابن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفي. «انج سعد فقد هلك سعيد». مرت أيام أصبح الموظفون وأرباب الأعمال والمصالح يرتجفون ذعرا من مجرد ذكر الرشوة أو الاختلاس من أموال الدولة. وهكذا لم تَسُد النزاهة فقط في العراق وإنما ظهرت كفاءة العراقيين أيضا خلالها. استطاعوا أن ينجزوا لصدام حسين أعمالا ومشاريع عجيبة تتطلب اعتياديا سنين من العمل ولكنهم أنجزوها خلال أيام قليلة. لم تدم المرحلة طويلا مع الأسف، فسرعان ما اختلطت الأمور واختل النظام بدءا بتلك الغلطة الكبرى في غزو إيران ثم غزو الكويت. العراق بلد منحوس ومحسود - يقول العراقيون. وتسمعهم يقولون أيضا، لا تستقيم الأمور في العراق دون صدام آخر أو حجاج آخر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مشاركة :