هناك في عالمنا العربي ولاءات متنوعة، وكثيرا ما تكون متضاربة. ما زال الولاء الوطني ضحلا في نفوس أكثرنا. يعلو عليه الولاء الطائفي، ويعلو على الولاء الطائفي الولاء القبلي، ويعلو على الولاء القبلي الولاء العائلي. ولكن كان هناك ولاء آخر هو الولاء للطرف، أو المحلة (الحارة). وكانت تجري في بغداد معارك بين المحلات. وعلى أولاد الطرف أن يهبوا ويشمروا عن سواعدهم للدفاع عن طرفهم. وكان هذا الولاء يملي عليهم مساعدة كل من ولد ونشأ في طرفه والدفاع عن شرف بنات الطرف. مرت أعوام وأعوام على عيشي في بريطانيا، ولكن ذلك الولاء ظل يلاحقني. كلما أوقعني ذلك الشاب النزق، زهير، في مشكلة أثناء عملي كان يجيب المدير، فيقول: «أستاذ أنت ما عليك. هذا ابن القشطيني ابن طرفي. أنا أفتصل معاه!». وكنت أنا وإياه نتسامر بسرد ذكريات أيام زمان في سوق الجديد ونترحم عليها. من أبناء الطرف في لندن كان زميلي أبو علي. كان شيوعيا ملتزما. وقدر للسيد محمود، ابن طرف آخر، أن حصل على وظيفة عريف مخبر من المخابرات العراقية. ووقع هذا في حيص بيص. كيف يخبر عن زميل ابن طرف؟ فتكلم مع أبو علي وأعلمه بالوضع. «يا عزيزي أبو علي، لا تحرجني وتقوم بنشاط شيوعي وتضطرني إلى أن أكتب عليك». ولكن الحوار لم يسفر عن شيء. اضطر أخيرا إلى الالتجاء إلى ذلك الأسلوب العربي لحل المشكلات: الوليمة. فقام بوليمة سخية دعا إليها أبو علي وضابط المخابرات المسؤول عن المنطقة. وانهمكت أم علي طوال النهار تنفخ وتطبخ حتى أعدت طنجرات كبيرة من الدولمة والباميا والتمن وكبة الشلغم. وبعد أن أكلوا وغسلوا أيديهم بدأ الحوار لإقناع الرفيق أبو علي بترك الشيوعية. «يا أخي أبو علي أجّل موضوع الشيوعية إلى أن تتخرج وبعدين تفرغ للثورة البروليتارية». روى لي الزميل أبو علي فقال إنه شعر بعبء كبير بعد خروجه من الوليمة ومحاولة ابن الطرف التوفيق بين الشيوعية والمخابرات. ازداد موقفه حراجة، كيف يخيب ابن الطرف وكل هذا الخبز والملح الذي جرى بينهما؟ فهنا دخل الميدان ولاء جديد يعلو فوق كل ولاء بيننا «الولاء للخبز والملح». ويظهر أن هذا الولاء قد فاق حتى الولاء للحزب كما استنتجت من وجوده أمامي هنا في لندن، موظفا لدى الحكومة البريطانية الإمبريالية!
مشاركة :