كثيرا ما ننسى، نحن العراقيين جيل أهل النفط وكل هذا الخير الذي أصبح يتدفق علينا، كيف كانت الحياة في مجتمعنا قبل اكتشاف النفط. يتسلم العراق حاليا نحو 130 مليار دولار سنويا. بيد أن مجموع ميزانيته في الثلاثينات لم يتجاوز الخمسة أو ستة ملايين دينار. لا عجب أن تضطرب الحياة فيه وتعم المنازعات اليوم وكل هذه العركة على الكعكة. ولكن في أيام زمان كانت الأمور بسيطة ومتواضعة. حدث أن عينوا أخي إحسان، رحمه الله، مديرا لناحية المدينة، البلدة الصغيرة في جنوب العراق. صاحبته إليها وصعقني ما لاحظته فيها من الفقر والتخلف. تركزت كل معالم الحضارة فيها في نادي الموظفين الذين لم يتجاوز عددهم سبعة أو ثمانية. كانت الميزة الرئيسية لهذا النادي احتواءه على الراديو الوحيد في المدينة، وكان يعمل من بطارية بدائية. وكان هناك فونوغراف يعمل بالزمبرك مع دوزينة من الأسطوانات يعزفونها مكررا كل ليلة. بيد أن المتعة الوحيدة (إذا جاز لي أن أسميها متعة) لهذا النفر من الموظفين مع عدد قليل من وجهاء القرية كانت لعب القمار. خرجنا من النادي وتلمسنا طريقنا بضوء القمر إلى البيت، بيت مدير الناحية. فوجئ أخي إحسان عندما لاحظ أن الفانوس النفطي المعلق أمام بيته كان مطفأ. وكان الفانوس الوحيد في المدينة يشعلونه ليلا كرمز لهيبة الحكومة. استولى الغضب على إحسان فنادى على الحارس الجرخجي، أيضا الوحيد في المدينة. «هاي شنو؟ ليش الفانوس مطفي اليوم؟ يعني الحكومة ماتت؟». «لا سيدي. أعوذ بالله. لكن المدير السابق الأستاذ غسان أمرنا بأن ما نشعل الفانوس لما يكون بالسما قمر قوي. قال ضوا القمر يكفي. واقتصدوا بالنفط». «لا. هذا الأمر ملغي. من اليوم وصاعدا، اكو قمر ما كو قمر، تشعلون الفانوس؟». «سيدي وإذا خلص النفط؟». «تشترون بطل نفط جديد. تأخذون فلوس من البوسطجي». وهذا ما جرى. وفي كل ليلة عدنا فيها من النادي وجدنا الفانوس موقدا. وبجانبه الحارس يشير إليه باعتزاز بأن فانوس الحكومة مشعول. وأعتقد أنه عندما سيكتب تاريخ العراق الحديث سيكون من الضروري أن يدونوا هذا الإنجاز الكبير، أنه في عهد إحسان القشطيني صدرت الأوامر بإشعال فانوس المدينة في الليالي المقمرة والليالي غير المقمرة أيضا. عدت إلى بغداد ورويت لوالدتي رحمها الله كل هذا الإبداع والإنجازات من ابنها في العمل وكيف أنه أمر بإشعال فانوس ناحية المدينة في الليالي المقمرة أيضا. استمعت لحكايتي وأجابت: «معلوم! أخوك إحسان الله خالقه على الصرف والتبذير. إذا كان يخلي الراديو يشتغل الليل كله وهو نايم يشوخر، ليش ما يشعل الفانوس واكو قمر قوي بالسما؟!». بعد بضع سنوات أصدرت وزارة الداخلية أمرا بالاستغناء عن خدمات أخي إحسان وفصله من الوظيفة. لم أعرف لماذا ولكن يلوح لي الآن أنهم فصلوه من الوظيفة بسبب تبديده لأموال الدولة في أمره بإشعال الفانوس النفطي لناحية المدينة من دون أي ضرورة أو حاجة ماسة لإشعاله. وكانت أيام وفاتت يا سادة.
مشاركة :