كان عراق السبعينات من القرن الماضي يزود المواطنين بفسائل النخيل بأسعار مدعومة، والنتيجة أن شوارع بغداد الفسيحة أصبحت بستانا يعج بأشجار النخيل الباسقة.العرب لطفية الدليمي [نُشر في 2018/01/03، العدد: 10858، ص(14)] انتهى البستانيّ الذي يرعى حديقة المنزل قبل بضعة أيام من اقتلاع بضع شجيرات زينة اسودّت أوراقها وتيبّست جذوعها بعد صيفٍ قاسٍ أكل الأخضر ولم يترك سوى اليابس الميّت. كنتُ أراقب البستانيّ الذي تلطّخت يداه بمسحوق أسود يشبه مسحوق الفحم وأنا أتساءل “ما هذا الذي يحصل؟ هل حقا باتت الشجيرات الخضراء سريعة العطب وعرضة للموت المتغوّل في هذه السنوات العجاف؟”. قد يسمع الكثيرون- وهم غير مكترثين- بمفردات من قبيل: الاحترار العالمي، ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ، ظاهرة غازات الدفيئة، ظاهرة النينيو.. إلخ، ولا يكاد يرفّ له جفن، والحقّ أن تقصيرا معيبا في أداء الأفراد إزاء هذه الظواهر، إذ على الرغم من كثرة المواد الإخبارية والإعلامية بشأن التغيّرات المناخية الشاذة، لكن لا بديل عن جهد فرديّ مواظب لمعرفة أدقّ تفاصيل هذه الظواهر ومساءلة الكيفية التي يمكن بها للفرد المساهمة في تقليل آثارها المهلكة، والفعل الجاد- كما نعلم- يأتي لاحقا للمعرفة الجيّدة بكلّ أبعاد الموضوع وإلى حد معقول بالنسبة للمواطنين من غير المتخصصين. قد يظن البعض بأنّ ظواهر غريبة مثل هذه تستلزم جهودا عالمية وقدرات حكومية ضخمة ولن يكون دور الأفراد مؤثّرا فيها؛ غير أن هذا خطلٌ كبير يُراد منه التعتيم على دور الأفراد، وعلينا ألاّ ننسى التأثير الجمعي للكتلة البشرية التي تتجاوز الستة مليارات نسمة، أما ماذا يمكن للفرد أن يفعل بهذا الشأن فذاك موضوع قراءة اختصاصية، ولكن لا بأس من ذكر القليل المؤثر منها: ضبط استهلاك المياه، تقليل استخدام المحروقات العضوية، المساهمة في زيادة رقعة المساحات الخضراء، ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية.. إلخ. ولا يعدّ الخوض في هذه الموضوعات ترفا؛ فقد تنبّهت أغلب البلدان- المتقدمة والتي في طور الارتقاء- إلى خطورة هذه الظاهرة التي ستكون الظاهرة المؤثرة على مجمل السياسات العالمية في السنوات القليلة القادمة، وبلغ الأمر حدّ اعتماد ما يسمّى (الثقافة البيئية) التي تعدّ اليوم فرعا حيويّا ضمن السياسات الثقافية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بلغ حدودا أكبر تتغلغل في معظم المفاصل الحياتية للمجتمع. أذكر، على سبيل المثال، أنّ نوعا أدبيا روائيا بات يدعى الرواية البيئية نال حظوة كبيرة في السنوات الماضية وظهرت روايات كثيرة جعلت البيئة ثيمة رئيسية لها، هذا فضلا عن الاهتمام التعليمي منذ المراحل المبكرة بتعليم الموضوعات البيئية بسبب المعرفة الاستباقية بخطورة الموضوع. ولا بد في هذا الإطار أن تتداخل السياسيات الفردية والحكومية في تركيبة فعّالة لها هدف عملي محدّد في ميدان الحفاظ على البيئة: أذكر كمثال على هذه التركيبة الفريدة والمؤثرة، أنّ قانون البناء في عراق السبعينات من القرن الماضي كان يشترط زراعة نخلتين في كلّ دار جديدة يتمّ تشييدها، وكانت الدولة تزوّد المواطنين بفسائل النخيل بأسعار مدعومة، والنتيجة أنّ شوارع بغداد الفسيحة في محلاتها الأنيقة أصبحت بستانا يعجّ بأشجار النخيل الباسقة التي أسهمت في تلطيف الأجواء والحدّ من تعرية التربة، بالإضافة إلى مردودها الاقتصادي الوفير من أفخر أنواع التمر العراقي. نحن على أعتاب كارثة بيئية خطيرة ومدمرة ستتفاقم مفاعيلها في السنوات القليلة القادمة، وما لم نحشّد كلّ الجهود الفردية والحكومية لمواجهتها فسنكون بمواجهة مشهد قيامي مريع في القرن الحادي والعشرين. كاتبة عراقيةلطفية الدليمي
مشاركة :