مليحة أمجاد الماضي وأحلام المستقبل

  • 1/7/2018
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

أمل سرور عندما تلتقي بالتاريخ وجهاً لوجه، تقف أمامه متأملاً منبهراً منحنياً لأمجاد صنعها الأجداد، ولايزال الأحفاد يعيشون على أطلالها. عندما ترى بعينيك تلك الوثائق التي حُفرت على الطوب والفخار والنحاس والحجر، وتنصت جيداً لتلك القصص والأساطير التي تهمس بها لك الجدران العتيقة، وتشم رائحة العصر الجليدي، ويرتعش بدنك أمام الزمن البدائي، وتلمس بيديك نعومة الأيام البرونزية، وتغوص في أعماق ما قبل الإسلام، وترصد اختلاف العبادات والمعتقدات الدينية، وتحاول جاهداً أن تفك شفرات الكتابة الآرامية، فأنت فقط على تلك البقعة الأصيلة من أرض الشارقة، وتحديداً على بُعد ‬20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى مسافة ‬50 كيلومتراً شرقي مدينة الشارقة.أنت إذن على موعد مع تلك الأرض لتتجول ما بين منحدرات جبالها المتنوعة، وتستسلم لهدوء وسكينة صحرائها الممتدة بكثبانها ومنخفضاتها الرملية، وتطلق العنان لقدميك للسير في وديانها الصغيرة الضيقة.أنت على موعد مع أهم المواقع الأثرية ليس في إمارة الشارقة فحسب بل في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية: منطقة مليحة التي أصبحت مشروعاً يمزج ما بين السياحتين الأثرية والبيئية، ليحتضن الماضي بأمجاده والحاضر بإنجازاته والمستقبل بأحلامه. رحلة إلى كنز إمارة الشارقة التاريخي استمرت ما يقرب من 5 ساعات، ننقلها ونرصد تفاصيلها ونصحبك إليها عبر سطور مقبلة. مهمة وتاريخية وأسطورية تلك المنطقة التي جرت فيها التنقيبات على قدم وساق منذ بداية السبعينات من القرن الماضي وكشفت عن وجود مدينة ضخمة تضم أبنية إدارية وحصوناً كبيرة، ومدافن تذكارية وحارات سكنية ومقابر دفنت فيها الجمال والخيول إلى جانب أصحابها وصُكت عملتها المحلية فيها.المنطقة كانت ولا تزال مركزاً مهماً في شبه الجزيرة العربية، وتحديداً في التجارة العالمية التي تربط بين أقطار حوض البحر الأبيض المتوسط ومثيلتها المطلة على المحيط الهندي، وكذلك مع وادي الرافدين.بعد 45 دقيقة من الشارقة يمكن الوصول إلى مركز مليحة للآثار، تقع الأعين على طبيعة صحراوية تعلن قرب الوصول إلى المنطقة. ها هي بوابة المركز تستقبلنا، وها هي الصحراء برياحها تحتضن المركز الذي تستطيع أن تشم بسهولة رائحة التاريخ وأنت تقف على أعتابه.محمود راشد بن ديماس السويدي، المدير العام لمشروع السياحة الأثرية والبيئية في مليحة، استقبلنا، وعلى الفور اصطحبنا الشاب الإماراتي عبد العزيز عبدالله في جولة تعريفية بالمركز.بدأ مرافقنا يتحدث مع أولى خطواتنا في المركز الذي يستقبلك بخريطة تشرح موقع الإمارات ومكان منطقة مليحة فيها، لندخل عقبها إلى قاعة مخصصة لنتابع فيلماً وثائقياً يشرح لنا الكثير من الحقائق التاريخية عن المنطقة التي شهدت عصوراً قديمة. لا محالة ينتابك شعور بأنك قد عدت إلى الوراء قروناً لتتوحد مع الأحداث فتجد نفسك تعيش في قلبها. ومن صالة عروض الأفلام الوثائقية نكمل جولتنا داخل أروقة المركز لنشهد العديد من الآثار التي توثق لمرور مليحة بعصور مختلفة من البدائي للحديدي مروراً بالبرونزي وما قبل الإسلام، فها هي فخاريات وبضائع أخرى من وادي الرافدين وشمال الجزيرة العربية واليمن وجزيرة رودس الإغريقية وكذلك من رومانية وأختام من مصر.وها هي صور مجسمة لأبنية مدنية ومقابر خصصت للبشر ومدافن للجمال والخيول وهي أقدم من الناحية المعمارية من المقابر التي اكتشفت في مدائن صالح وكذلك في موقع الفاو في السعودية أو البتراء في الأردن أما عن معدن الحديد الذي استعمل بكثرة في هذا العصر، فحدث ولا حرج، فمن الواضح أن أهل مليحة كانوا يستخدمون العملة على الطريقة الإغريقية التي تحمل رسم رأس هرقل، واكتشفت بين أغراضهم بعض النصوص الكتابية القصيرة، وهي إما بالآرامية أو بلغة أهل جنوب الجزيرة العربية.ويفاجئك أثناء مرورك على الغرف الزجاجية التي تخفي وراءها آثار الأجداد صور مجسمة لمملكة مليحة التي اكتشفت في العام 1973 وكانت عبارة عن مدينة صغيرة تضم قصراً وحصناً ومباني سكنية ومقبرة وورشاً صناعية للعظام والمعادن استوقفتني كثيراً تلك المدينة وبهرني أكثر ذلك الحصان العربي الأصيل الذي صمم بشكل مجسم ضخم داخل المركز واُستعمل الليزر بإضاءته العبقرية في تجسيد معلقة الشاعر العبقري امرئ القيس التي تغزل فيها في الخيل العربيجولة ممتعة ختمها مرافقنا قائلاً: أظهرت المكتشفات أن مليحة بلغت من الرقي في هذه الفترة ما جعلها تتحول إلى سوق للمناطق المجاورة، بل ربما ملكت قدراً من السلطة في محيطها مكّنها من ضرب عملتها الخاصة التي استنسختها عن «دراخما الإسكندر المقدوني»، وظلت مليحة آهلة بالسكان خلال الفترة بين 300 قبل الميلاد و300 م، ودفن أهلها أشرافهم في قبور خاصة بنوا عليها أبراجاً جنائزية دفنت فيها معهم أهم مقتنياتهم من الفخار و الأواني الزجاجية والفخارية المستوردة و الحلي، بل إن بعضهم دُفن بجواره بعض أنعامه كالخيول والجمال، كدليل على إيمانهم بالحياة بعد الموت التي كانوا يظنون أنها استمرار لحياتهم الأولى.

مشاركة :