كنت أعتقد أن ما تكوّن لديّ من انطباعات عن الجالية اللبنانية في الأرجنتين سيكون مماثلاً لانطباعي عن الجالية في المكسيك. لكني لا أخفي مدى مفاجأتي السارة عندما وجدت أن لدينا جالية في ذلك البلد أكثر تماسكاً وتوحُّداً وتنظيماً وفعّالية وغنى واستقراراً وحضوراً في الحياة اليومية للبلاد. كما أن قوة الحضور اللبناني الحديث فيها بارزة وعدد الذين يتكلّمون العربية والذين هم على تماس دائم ومباشر مع لبنان كبير أيضاً. لم أكن ملمّاً بهذا الواقع سابقاً. وأني واثق بأن الغالبية القصوى من المسؤولين وأبناء الشعب اللبناني لا يعرفون أيضاً هذا الواقع. فالاغتراب ما زال مادة عامة تتم الإشارة إليه في الخطب والمناسبات وفي الإعلام إما من منطلق التغنّي أو من منطلق الإشارة إلى دوره في تسوية الثغرات التي بدأت تبرز على صعيد التوازن بين الأقليات التي يتألف منها لبنان، وما يتبع ذلك من حقوق التسجيل ومنح الجنسية والتصويت. ولم يتم إدراجه كموضوع مرتبط بالحضور السياسي والاقتصادي والثقافي للبنان في العالم. ظلت النظرة إلى الاغتراب مادة تجاذب سياسي (أرقام في حضور الطوائف والمذاهب في البلاد) أو مادة نفعية (أرقام للاستفادة من إمكاناتها المالية ولا سيما لخدمة قيادات سياسية وتبادل منافع معها). ولم نلمس يوماً قراءات عامة ولا جلسات منابر إعلامية، ولا إشارات من المسؤولين عن موقع يلعبه الاغتراب في التخطيط الاقتصادي، في القطاع الخاص أو العام، ولا عن مدى أهمية دمج هذا الاغتراب في إستراتيجيات العمل الوطني دولياً لتفعيل الحضور اللبناني على خريطة العالم. وعليه طالبتُ وما زلت بضرورة جعل الاغتراب مادة للحوار الوطني يدخل في رسم الإستراتيجيات العامة التي تشمل كل جوانب الحياة في البلاد: الإنمائية والاقتصادية والمالية والبيئية والثقافية والتربوية والرياضية وغيرها. وبمعنى آخر، فقد دعوتُ إلى تفعيل شعار «لبنان طائر بجناحين: المقيم والمغترب» لكي يصير الاغتراب جزءاً لا يتجزأ من التخطيط الوطني في كل مفاصل الحياة العامة للشعب. من الواضح أني لست الوحيد الذي كان يجهل حيثيات الاغتراب، بل كل المسؤولين عن صناعة القرار في البلاد سواء كان القرار السياسي أو الاقتصادي والمالي أو الأمني أو... وحتى الاغترابي. تركزت النظرة اللبنانية في شأن الاغتراب في شكل كبير على الاغتراب الحديث وعلى مواقع انتشار هذا الاغتراب. ولم يحظ الاغتراب القديم بأي اهتمام حقيقي. وسمح المسؤولون عن رسم سياسات لبنان بإسقاط الاغتراب القديم من الحسابات السياسية، وتجهيله وتجاهله والقفز فوقه، وبالتالي تجاهل مواقع انتشاره والتي هي بالتحديد القارة اللاتينية. ولا أتردد بأن أقول إن المارونية السياسية التي أمسكت زمام السياسة الوطنية بعد الاستقلال عام 1943 وحتى عام 1975 أعارت اهتماماً لهذا الجزء من العالم، لكن، لملاحقة الحضور المسيحي، لا سيما الماروني فيه، وليس من منطلق دمجه في العناصر المكونة للسياسات الإنمائية الوطنية أو سياسات الدمج في النسيج الدولي. واستمر هذا الخطأ مع صعود الشيعية السياسية التي راحت تركّز أكثر على إفريقيا فيما القيادات الطائفية الأخرى لم تهتم بشكل عام بالاغتراب لأن النظرة كانت احتساب أرقام وما يفيد هذا الأمر لخدمة مصالح السياسيين ودورهم في لعبة التجاذب والتناهش الطائفي والمذهبي السائد في البلاد. ومن الواضح أن عودة الدور الماروني إلى الخارجية مع تولي رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حقيبة الخارجية أعاد الاهتمام إلى القارة اللاتينية لكن من المنطلق القديم ذاته أي اللحاق بالمسيحيين. وقد أخذ هذا التوجّه منحى أكثر وضوحاً مع التصريحات اليومية المتداولة للوزير بحجة الدفاع عن الحضور المسيحي في لبنان، ومن خلال إقامة تعاون صريح مع المؤسسة المارونية للانتشار، وسمحت الظروف الداخلية والتحالفات القائمة في البلاد بمثل هذا التوجُّه من دون أي تحفُّظ. انطلاقاً مما سبق نلاحظ أن أميركا اللاتينية لم تشهد زيارات مسؤولين من القطاع العام والسياسي في البلاد إلا نادراً. وكان الرئيس كميل شمعون أول رئيس جمهورية يزور تلك القارة حين زار الأرجنتين عام 1954 وتبعه بعد أكثر من ستين عاماً الرئيس ميشال سليمان الذي زار دولاً عدّة في تلك القارة. وجاء الآن الوزير جبران باسيل ليتبنّى سياسة اغترابية بمؤازرة المؤسسة المارونية للانتشار. وقد كشف المحامي لوران عون عضو المجلس التنفيذي لهذه المؤسسة أن أحد أهدافها هو «خلق جيل من المغتربين الذين يحملون القضية المارونية أينما وجدوا في العالم وتنشئتهم ليصبحوا رسل وسفراء للمؤسسة المارونية للانتشار، لتبقى قضاياها وأهدافها أمانة في أعناقهم وتسجيل الوقوعات الشخصية لدى البعثات اللبنانية وفي سجلات الأحوال الشخصية في لبنان». أكنُّ للمؤسسة المارونية للانتشار وللقائمين عليها كل احترام، ولم أتردّد في التعاون مع هذه المؤسسة خلال وجودي في الأرجنتين بما في ذلك خلال الوصاية السورية حين كان الحضور المسيحي في لبنان يتعرض للتهميش السياسي. وما زلت أتذكر كرم ضيافة الوزير ميشال إده الذي استضافني إلى غداء في مطعم في الأشرفية ليشكرني على جهودي. وقد تعاونت مع السيدة هيام البستاني التي عرضت توفير موظف إضافي في السفارة اللبنانية في الأرجنتين على نفقة المؤسسة يكون مخصصاً لمكننة ملفات المغتربين ومتابعة المعلومات الواردة فيها لاستكشاف مصير أكثر من 14 ألف عائلة لبنانية. لكني تمكنتُ من تكليف موظف على نفقة الدولة وبدأت العمل لهذا الغرض. وكنت أتوقّع أن مثل هذا الأمر سيؤدي إلى الوصول إلى أكثر من 350 ألف شخص سيكون من حقهم الحصول تلقائياً على الجنسية اللبنانية. وسعيتُ إلى أن أشرح الأمر للوزير باسيل خلال المؤتمر الديبلوماسي الذي عقد في بيروت في أيار (مايو) 2016 على رغم اتهامه لي في خطابه بأني كنتُ منعزلاً في سفارتي هناك، وذلك كي أطلب منه التركيز على الملفات المتوافرة في السفارات أولاً والتي كان يمكن أن تكشف لنا مئات ألوف المغتربين. لكن الوزير تعمّد إسكاتي بطريقته المعهودة تجاه السفراء، الأمر الذي دفعني إلى رد فعل أوصلني إلى تقديم طلب التقاعد المبكر. وفي المناسبة لا بد أن أشير إلى أن الجالية اللبنانية في المكسيك كما في دول أميركا اللاتينية الأخرى لم تكن كلها مسيحية (مارونية أو أرثوذكسية) بل ضمت أيضاً نسبة كبيرة جداً من الطوائف الأخرى، وخصوصاً من الدروز الذين شكّلوا في حينه جزءاً مهماً من النسيج السكاني للبنان الصغير أو ما كان يسمى جبل لبنان وكانوا أكثر المهاجرين إلى تلك القارة، بالنظر لأنهم كانوا على تماس مع الغرب (فرنسا أو بريطانيا). ونذكر أن القنصل التركي الوحيد في تلك القارة كان درزياً وهو الأمير أمين أرسلان الذي كان قنصل تركيا في الأرجنتين وما زال أسمه متداولاً حتى هذا التاريخ، وثمة شاطئ في الأوروغواي يسمى شاطئ المير تيمناً به. غير أن الكنيستين المارونية والأرثوذوكسية تبعت أبناءها إلى تلك القارة وأسست إرساليات ساهمت في الحفاظ على الصلة الثقافية والروحية للمغترب مع لبنان وكنيسته. ولطالما أعربتُ عن التقدير لهذه الخطوة التي سمحت بالحفاظ على علاقة المغترب اللبناني مع الوطن الأم. أما الدروز فقد تحولوا جيلاً بعد جيل إلى الكنيسة الكاثوليكية التي تنتمي إليها الغالبية العظمى من سكان تلك القارة نظراً لأن السلطات الروحية الدرزية لم تلحق بهم. وقد فاتحتُ شيخ عقل الطائفة الموحدين الدروز بهذا الأمر راجياً تكثيف زيارات المسؤولين إلى تلك القارة كعامل تعميق للحضور الثقافي اللبناني هناك لكني لم أفلح بإقناعه. وكم حاولتُ إقناع الوزير والقائمين على الكنيسة في المكسيك بأن المصلحة البعيدة للمسيحيين ولبنان هي في إقناع المغترب بأن لبنان هو بلد مفيد له كوطن والابتعاد عن التباكي أمامه بتصوير العكس أي أنه هو المفيد للبنان. إن ما يتم إظهاره أمام المغترب الآن هو يأس اللبنانيين وخصوصاً المسيحيين وحاجتهم المصيرية إليه، فيما المطلوب إقناعه بأن لبنان بخير وأن له دوراً مميزاً على الصعيد العالمي هو دور الرسالة، تماماً كما قال قداسة البابا الراحل. عند ذلك سيشعر المغترب باندفاعة طوعية نحو لبنان وليس آنية إرضائية لهذا وذاك. * سفير لبنان سابقاً لدى الأرجنتين والمكسيك (2000- 2016)
مشاركة :