يجب الإقرار بأن حكومة الشاهد كسابقاتها من الحكومات لم تتوصل إلى تركيز كيان حكومي متماسك فكريا وسياسيا.العرب منور مليتي [نُشر في 2018/01/12، العدد: 10867، ص(4)] من الصعب فهم الأحداث السياسية الحالية التي اتخذت نسقا تصاعديا وبدت مرشحة إلى الزج بتونس في أزمة سياسية هي في غنى عنها خارج سياسة الائتلاف الحاكم من جهة وخارج أجندات الأحزاب السياسية من جهة أخرى، بل من الصعب فهمها خارج العملية السياسية في ذاتها التي ارتهنت كثيرا إلى الترضيات بحثا عن استقرار حكومي لم يتحقق أكثر مما ارتهنت إلى كيان حكومي قوي يفرض سلطته المشروعة على مكوناته بعيدا عن الضغوط من أي جهة كانت. يمكن اعتبار تكوين جبهة سياسية لخوض الانتخابات البلدية ضربة موجعة لحكومة يوسف الشاهد ومن خلفها وثيقة قرطاج ومفهوم الوحدة الوطنية لأن الجبهة تستبطن معارضة للحكومة مهما ادّعى البعض غير ذلك بل أبعد من ذلك يمكن القول إنها نواة لتكوين قوة سياسية تمهيدا للاستحقاقات الأخرى القادمة وفي مقدمتها الانتخابات التشريعية والرئاسية الأمر الذي قد يعيد رسم الخارطة السياسية. يجب الإقرار بأن حكومة الشاهد كسابقاتها من الحكومات لم تتوصل إلى تركيز كيان حكومي متماسك فكريا وسياسيا، وهو أمر قد يتجاوز رئيس الحكومة نفسه، كيان يفرض سلطة قراره على مكونات الائتلاف بعيدا عن أي شكل من أشكال الترضيات أو الضغوط ويضع حدا لها خاصة من قبل النهضة والنداء. صحيح أن الشاهد لم يشر إلى أي ضغوط أو ترضيات لكن انتفاضة الأحزاب الصغرى وهي أحزاب ليبرالية بالتعريف هي نوع من المعارضة لسياسة رئيس الحكومة في علاقته بالحزبين الكبيرين وهي أيضا نوع من المعارضة إلى حد الرفض لتهميشها من قبل النهضة والنداء وبالتالي رفض تركيبة الائتلاف. من الإجحاف تجاهل جهود الشاهد، لكن من الإجحاف أيضا تجاهل أن تلك الجهود لم تتسلح بالجرأة اللازمة التي تروض مكونات الائتلاف على أبجديات العمل الحكومي وعلى هوية السلطة التنفيذية إحدى مؤسسات الدولة حتى أن حكومته بدت لغالبية اتجاهات الرأي العام والطبقة السياسية حكومة نهضوية ندائية أكثر مما هي حكومة وحدة وطنية تقف على نفس المسافة من كل مكوناتها. وفي ظل غياب الجرأة التي لا تخشى أي طرف، يبدو أن انفتاح التركيبة أكثر ما يمكن على المشهد السياسي عقّد صلاحيات رئيس الحكومة وعمّق الخلافات إلى حد بدت فيه الحكومة تخطو نحو فقدانها لحزامها السياسي الذي راهنت عليه لتوفير الاستقرار، لا فقط من الأحزاب المستضعفة الليبرالية وإنما أيضا من قبل شق من حركة النداء الذي بدا يضغط لإجراء تعديل وزاري قد يطال رئيس الحكومة نفسه. أما على المستوى السياسي وعلى الرغم من البرنامج الذي نال ثقة البرلمان، فقد ألقت التركيبة بظلالها السلبية على الأداء حيث اكتفت بإدارة الشأن العام ولم تشرع بعد في صناعة سياسة قادرة على خوض الحرب التي أعلنها الشاهد على الفساد والتهريب وتوفير التنمية. ويبدو أن الاكتفاء بالإدارة نتيجة طبيعية لإتلاف تخفي مكوناته أجنداتها واستثمار تدني أداء الحكومة للتموقع من جديد خلال الاستحقاقات القادمة لا فقط الاستحقاق البلدي وإنما الاستحقاق التشريعي والرئاسي. وقد لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى القول إن غالبية مكونات التركيبة الحكومية ما انفكت تبتز رئاسة الحكومة سواء من خلال الاستقواء أو الضغط أو الاستخفاف بمسؤولياتها على وقع إملاءات أحزابها التي بقدر استماتتها في التموقع داخل السلطة التنفيذية بقدر استماتتها على التخفي من ورائها وعدم الظهور في الواجهة في محاولة مدروسة تجني منها النجاحات وتنأى بها عن الفشل. وسواء كانت الأزمة أزمة حكم بنيوية أو أزمة حكومة أو أزمة أحزاب، إلاّ أن الأكيد أنها أزمة قديمة تتغذى من التحالف بين النهضة والنداء وهو تحالف أجهض على صناعة السياسة في تونس باتجاه بناء قوة سياسية مدنية تحظى بمشروعية شعبية وتتبنى خارطة طريق برامجية ومشروعا تنمويا وسياسيا واضحا تقوده طبقة سياسية متجانسة فكريا وسياسيا وثقافيا في إطار خيار الوحدة الوطنية. وخلافا لما يراه البعض ممن لم يترددوا في وصف الأحزاب العشرة بـ”المارقين”، خاصة الأحزاب الموقعة على وثيقة قرطاج، لا تؤشر الجبهة فقط على حدث سلبي وإنما تؤشر أيضا على توجه إيجابي لا يمكن إنكاره في ظل تعثر العملية السياسية وأيضا في ظل تدني أداء الحكومة وشعور جزء من الطبقة السياسية بالتهميش. يتمثل العامل السلبي في أن الجبهة جردت، أو تكاد، الحكومة من حزام سياسي ليبرالي مدني لتترك رئيس الحكومة يتحرك في دائرة ضيقة تهيمن عليها النهضة والنداء، دائرة جردت الحكومة من هويتها كحكومة وحدة وطنية بعيدا عن وثيقة قرطاج خاصة بعد دعوة البعض إلى مراجعتها وبالتالي فإن الأحزاب العشرة استهدفت بوعي أو دون وعي الجسم الحكومي نفسه وسياساته وأدخلت عليه الارتباك. أما العامل الإيجابي فإنه يتمثل في مؤشر على نوع من صحوة الأحزاب المدنية العريقة واقتناعها بأن العملية السياسية الديمقراطية تستوجب مراجعات بعد سبع سنوات، من خلال إعادة رسم خارطة سياسية وطنية مدنية تمهيدا إلى بناء قوة سياسية تسحب البساط من تحت أقدام التحالف خلال الاستحقاقات القادمة. صحيح أن الأوزان الانتخابية تبقى لصالح التحالف باعتبار الأغلبية البرلمانية وصحيح أنه من الصعب أن تنسف الأحزاب العشرة الخارطة السياسية الحالية، ولكن الصحيح أيضا أن الجبهة مؤشر قوي على أن العملية السياسية الديمقراطية وعلى المدى المتوسط أو البعيد تستوجب الانخراط في مسار جديد بعيدا عن التحالف وقريبا من الطبقة السياسية التي تؤمن بالمفهوم الحقيقي للديمقراطية في إطار مفهوم وحدة وطنية حقيقية لا مغشوشة. يبدو أن رئيس الحكومة يواجه أزمة حكم أكثر مما هو يواجه أزمة حكومية باعتبارها أزمة عضوية استفحلت خلال السنوات السبع الماضية، يجب اجتثاثها، ففي عالم السياسة لا توجد منزلة بين المنزلتين، إما أن تحكم وإما ألّا تحكم. هكذا تبدو العملية السياسية الديمقراطية تخطو نحو أفق غامض لا أحد بقادر على رؤيته أو حتى التنبؤ بمآلاته، الأمر الوحيد الذي نرى أنه واضح كل الوضوح أن تونس التي أطلقت أول دستور في التاريخ خلال العهد القرطاجني وأول دستور في العالم العربي عام 1861 وأسست دولة بالمعنى السياسي الحديث تتبنى دستورا مدنيا في أعقاب استقلالها تبقى عصية على عواصف السياسة الآفلة. كاتب من تونسمنور مليتي
مشاركة :