تؤشر الأوضاع في كل من تونس والجزائر وليبيا على أن الدول الثلاث باتت مرشحة للمزيد من التوترات السياسية والاجتماعية ناجمة أساسا عن أزمات اقتصادية حادة وسط مخاوف شعوبها من أن تلتقط بعض القوى الإقليمية والدولية تلك الأزمات وهشاشة الوضع فيها لفرض أجنداتها في المنطقة. وإذا ما استثنينا المغرب الذي يعد البلد الوحيد المستقر نظرا لما يمثله النظام الملكي من قوة توازن واستقرار سياسي واجتماعي وثقافي إلى جانب نموذج تنموي ناجح، فإن بقية بلدان المغرب العربي غرقت في أزمات داخلية أدخلت بعضها في اتون فوضى وجعلت أخرى على حافتها (الفوضى). ويرى دبلوماسيون ومراقبون أن الخيط المشترك بين كل من تونس والجزائر وليبيا يتمثل في غياب أرضية متينة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا تضمن الاستقرار، موضحين أن التمايز بين الأوضاع وطبيعة الأنظمة وأداؤها يستبطن تقريبا نفس المعضلات والمشكلات وأيضا نفس التحديات في ظل أنظمة ما انفكت تواجه شعوبا ساخطة على سياسات مرتعشة ومرتبكة فشلت إلى حد الآن في تركيز دول قوية. وأشاروا إلى أن حالة الاهتزاز التي تشهدها أنظمة البلدان الثلاث تعود بالأساس إلى تدني أدائها بشأن توفير حقوق المواطنة وفي مقدمتها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الرغم من أن بعضها خاصة الجزائر وليبيا يمتلك ثروات طبيعية هائلة كفيلة بتوفير التنمية والشغل ومقومات العيش الكريم والرفاه الاجتماعي. ويقول دبلوماسي عربي "إن مشكلة بعض بلدان المغرب العربي لا تكمن فقط في الأنظمة الحاكمة وإنما تكمن أيضا في هشاشة الأوضاع العامة سواء سياسيا أو تنمويا أو أمنيا لعدة عوامل". واعتبر أن "تلك الهشاشة تعد أرضية خصبة قد تزج بالمنطقة إلى المزيد من التوترات خاصة إذا تضاربت المصالح". وأضاف الدبلوماسي العربي لمراسل ميدل ايست اونلاين مفضلا عدم كشف هويته أن "الأزمات التي تمر بها كل من تونس والجزائر وليبيا وما يرافقها من تداعيات على جميع المستويات قد تكون مدخلا آمنا لعدد من القوى الأجنبية لتمرير أجنداتها في المنطقة لتأمين مصالحها الاستراتيجية على حساب شعوب المنطقة". وفي ظل أزمة متفاقمة تشهدها تونس منذ ثورة يناير/كانون الأول 2011 ومسار ديمقراطي ناشئ ما زال يتحسس السياسات الكفيلة بضمان نجاحه وأزمة اقتصادية حادة تشهدها الجزائر بفعل انهيار أسعار النفط منذ يونيو/حزيران 2014 وفوضى أمنية وأزمة اقتصادية تشهدها منذ 2011 وعجزت السلطات المتعاقبة في ليبيا والمتصارعة على الشرعية في معالجتها، تبدو المنطقة وجهة جذابة أيضا للمتطرفين الذين ضاق عليهم الخناق في كل من العراق وسوريا بعد انهيار تنظيم الدولة الاسلامية وعاد منهم المئات إلى بلدانهم ليمثلوا خطرا أمنيا يضاف إلى المخاطر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولا تخفي غالبية اتجاهات الرأي العام في البلدان الثلاث توجسها بشأن مستقبل المنطقة مع عجز الحكومات فيها عن مواجهة التحديات القائمة وحماية قرارها السيادي. وفاقمت الأزمة الاقتصادية في تونس حجم الاقتراض الخارجي لتغطية عجز الموازنة وسط تحذيرات من ارتهان قرارها السيادي من قبل المؤسسات المانحة والمقرضة خاصة من شركائها الأوروبيين. ويقول نزار المسعودي أستاذ علم التنمية في الجامعة التونسية "إن معضلة البلدان الثلاث تكمن في غياب التنمية وما يرافقها من مقومات العيش الكريم والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغياب البنية الأساسي وهي العوامل الرئيسية التي تبقى وقودا للاحتقان الاجتماعي والغضب الشعبي لا تجففه سياسات تقليدية مرتعشة تفتقد الجرأة في مباشر إصلاحات هيكلية وجذرية". وأضاف لمراسل ميدل ايست اونلاين أن "ما يعمق المعضلة أن أسواق بلدان الشركاء الاقتصاديين وفي مقدمتها الأسواق الأوروبية تشهد انكماشا لافتا وتقلبات خطيرة ألقت بتداعياتها السلبية على اقتصاد كل من تونس والجزائر وتراجع حجم المبادلات التجارية على الرغم من أنه يبقى يتصدر المرتبة الأولى بنسبة 70 بالمئة لتونس مثلا". وشدد على أن "البلدان الثلاث وخاصة تونس والجزائر لم تبادر بالتفاعل مع التقلبات التي تشهدها أسواق الشركاء سواء لجهة إجراء إصلاحات هيكلية ترفع من القدرة التنافسية أو لجهة الانفتاح على أسواق أخرى صاعدة مثل السوق الصينية"، ملاحظا أنه "في حال تواصل الوضع الحالي فإن منطقة المغرب العربي ستدقع الثمن غاليا أقله تداعيات الأزمة الاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية". وتظهر قراءات في تاريخ كل من تونس والجزائر أن الاحتقان الاجتماعي الذي يتغذى من تدني أداء الاقتصاد قاد في عديد المحطات انتفاضات فاجأت نظامي البلدين، ومنها على سبيل المثال أحداث يناير/كانون الثاني 1978 في تونس والمواجهة الدامية بين المركزية النقابية وبين الحكومة وأيضا ما يعرف في تونس بانتفاضة الخبز في يناير/كانون الثاني 1984 التي اندلعت شرارتها على خلفية الزيادة في أسعار الخبز ولم تهدأ إلا بعد قرار الرئيس التونسي حينها الحبيب بورقيبة بالتراجع عن الزيادة في أسعار الخبز. وشهدت الجزائر مرارا خلال السنوات الماضية احتجاجات على غلاء الأسعار وارتفاع نسبة الفقر والبطالة على الرغم من أنها دولة نفطية تمتلك ثروات هائلة. وكثيرا ما قاد الاحتقان الاجتماعي في كل من تونس والجزائر إلى اهتزاز أنظمة الحكم لتستفحل توترات سياسية خطيرة لم تهدد فقط السلم الأهلي وإنما هددت أيضا النظام السياسي وحتى مؤسسات الدولة. وتقول سهام السويلمي أستاذة علم الاستراتيجيات في الجامعة التونسية "إن الثورات الاجتماعية تقود بالضرورة إلى توترات سياسية لأن الثقافة السياسية التي تتبناها شعوب المنطقة تعتبر أن الدولة هي الراعي الوحيد للشأن العام وهي المسؤول الوحيد عن الفقر والبطالة والتهميش". وقالت في تصريحات لمراسل ميدل ايست اونلاين "كانت الدولة في بلدان المغرب العربي تتبنى توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ونجحت إلى حد ما خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي في تأمينها أما اليوم فهي عاجزة عن توفير تلك الحقوق". وأشارت إلى ما تسجله موازنات تلك الدول من عجز دفعها إلى التداين الخارجي بشكل مفرط لتغطية النفقات الحكومية ما يهدد سيادتها واستقلالية قراها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أيضا. وبات الملف الاجتماعي عبئا ثقيلا على الدولة فيما تعجز عن تلبية مطالب وتطلعات الشعب من تنمية وتشغيل. ومما يعزز فرضية زيادة التوترات هو ملف عودة الجهاديين من بؤر التوتر إلى بلدانهم الأصلية بعد انحسار نفوذ تنظيم الدولة الاسلامية في كل من سوريا والعراق. ويرجح أن تتحول بعض دول المغرب العربي إلى وجهة أولى لهؤلاء المتطرفين خاصة أن عددهم كبير ما قد يحول بلدانا في المنطقة إلى خزان للإرهاب. ويشكل ذلك خطرا آخر يتهدد دول المنطقة في ظل الاحتقان الاجتماعي الذي قد يوفر بيئة خصبة لتحرك المتطرفين. وأشار خبراء أمنيون إلى أن قانون التوبة في الجزائر خفف من حدة خطر الإرهاب، إلا أن ذلك لم ينه خطر الجهاديين. وعلى الرغم من النجاحات الأمنية التي حققتها تونس في مواجهة الإرهاب، فإن خطر الجهاديين يبقى قائما لعدة عوامل لعل من أهمها ارتفاع عددهم الذي يقدر بنحو 5000 مقاتل وغياب الاستقرار في الجارة ليبيا. والتحق مئات المقاتلين التونسيين بمعسكرات تدريب في ليبيا وبجماعات متطرفة في كل من سوريا والعراق واكتسبوا خبرات قتالية. وقالت السويلمي إن "تقاطع الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية ومخاطر الجهاديين في ظل أنظمة مهتزة منهكة تعد كلها مؤشرات على أن المنطقة قادمة على المزيد من التوترات". واعتبرت أن تلك الأنظمة تقف عاجزة عن وضع حد للتوترات الاجتماعية مع ضبابية في الرؤية ومحدودية الامكانيات.
مشاركة :