الأزمة في تونس لا تحتمل المزيد من إدارة الظهر للحقيقة، والحقيقة التي لا تحبذ الحكومة التونسية سماعها تتمثل في أن ما ينقص البلاد هو إرادة سياسية شجاعة تطرق الأبواب الحقيقية للحل.العرب عبدالجليل معالي [نُشر في 2018/01/14، العدد: 10869، ص(7)] الأسابيع الأخيرة في تونس كانت موسومة بالاحتجاجات والتوترات الاجتماعية على خلفية ما صدر، وما قد سيصدر، من قرارات متصلة بإجراءات “موجعة” اضطرت إليها البلاد، أو دفعت إليها دفعا، بعد وصول الاقتصاد إلى تردّ غير مسبوق. قد تبدو الأزمة، وما صاحبها من احتجاج وتراشق بالتهم أزمة اجتماعية ذات دوافع اقتصادية، لكن التعريف الحقيقي للأزمة ومفهومها، سياسي صرف وإن اتخذ تعبيرات مختلفة. منذ أشهر، ومنذ بدأ قانون المالية الجديد يفرجُ عن أسراره، أجمعت كل القراءات، بما في ذلك القريبة من السلطة، على أن بداية العام الجديد ستكون صعبة وحافلة بالاحتجاج. هذه المقاربة لم تكن تعني أن السلطة، كانت مطالبة بالتراجع مسبقا على قانون قدّرت أنه سيمثل المخرج لمأزق اقتصادي تردت فيه البلاد، ولكن ذلك يعني أن السلطة كانت مدعوة لأن تقرأ الصلة بين محتوى قانون تعتزم وقتذاك إقراره، وبين ردود الأفعال الشعبية المترتبة عليه، وفي التاريخ التونسي المعاصر دروس كثيرة. المدخل الآخر لوجاهة القول إن الأزمة سياسية صرفة هو أن الجدال الذي رافق المداولات النيابية حول قانون المالية، وما جاوره من تشريعات قال صانعوها إنها ستخرج البلاد من الأزمة، كان عنوانه الرئيس الصراع بين سلطة (ائتلاف حاكم نواته حزبا النهضة والنداء) تريد فرض تشخيصها لواقع وتصوراتها للخروج من الأزمة، وبين معارضة (تتنوع وتختلف حسب السياقات) تقدم تشخيصا مختلفا للأزمة يحمل السلطة الحالية قسما من المسؤولية في التردي الحاصل، وتقترح لذلك تصورات مختلفة ومنوال تنمية مغاير. إقرار الزيادات (مع كل ما رافقها من تأويلات لغوية وخصومات حول مفهوم المواد الأساسية) ثم اندلاع الاحتجاجات، لم تكن سوى الجزء الظاهر من الأزمة. الأزمة سياسية، وتتصل بمفهوم الحكم والمعارضة في تونس، وترتبط بشكل النظام السياسي القائم، وتحيل كذلك على ما ورثته الحكومة القائمة من سابقاتها وتطرح الأسئلة عن الفروقات بين الحكومات المتعاقبة، على الأقل في مستوى التعاطي مع الجروح الاقتصادية والتنموية الغائرة، والتي يُتصدى لها دائما بذات الأساليب، مع انتظار نتائج مغايرة. قد تبدو الزيادة الأخيرة في الأسعار سببا كافيا ووجيها لاندلاع الاحتجاجات. وهذا الإقرار لا يطال إلا قسما يسيرا من الحقيقة المركبة. وهو أيضا تناول كسول ومتهافت للقضية لا يختلف كثيرا عن اعتبار الأزمة القائمة اقتصادية بالأساس. السبب العميق لاندلاع الاحتجاج، هو أن البلاد مقدمة على الإفلاس. والإفلاس بدوره ظاهرة مركبة نتجت عن عقود من الارتجال في السياسة الاقتصادية، وتزايد استفحالها في السنوات الأخيرة، جراء التعويضات الكبيرة التي كوفئ بها المناضلون ممن ارتضوا بيع نضالهم مقابل اعتمادات تحتاجها البلاد. إفلاس البلاد نتج عن التردد في إعلان الحرب على التهرب الضريبي والأيادي المرتعشة في ضرب الاقتصاد الموازي وغياب الإرادة السياسية في إعلان إصلاح حقيقي للمالية العمومية وترشيد النفقات؛ والإفلاس يترتب أيضا على تسيير التعاملات الاقتصادية الخارجية بمنطق الولاءات الأيديولوجية؛ والإفلاس ينتج عن الإرهاب الذي عطّل الإنتاج وكبّل السياحة ووأد الاستثمار. الربط بين هذه المظاهر وغيرها، وبين الطبقة السياسية الحاكمة يؤدي إلى القول إن الحكومة، أي حكومة، التي تعجز عن طرق الأبواب الحقيقية للحل، لن يكون بوسعها مطالبة الآخرين بطرقها. المبدأ السياسي البديهي أن السلطة تتحمل نتائج خياراتها السياسية، وتحاسب عليها إما بانصراف الناخبين وإما بغضب المحتجين. وفي المآلين لا يمكن تحميل الخصم السياسي مسؤولية الخيارات التي تصر عليها السلطة رغم ثبوت عقمها. هنا مفارقة مفادها أن الائتلاف الحاكم في تونس يتصرف وفق ثنائية تأميم الأرباح وخوصصة الخسائر، أي أنه يريد نسب الإنجازات لنفسه وتقاسم الكوارث والخسائر المترتبة على فشله أو ربما تحميلها لغيره. دليل آخر على أن الأزمة أعمق من مجرد زيادات أسعار واحتجاج شعبي، يكمن في تلك الحملات من تأثيم الاحتجاج. وهي أيضا مفارقة أخرى تتمثل في الاتفاق النادر الغريب بين أنصار النهضة والنداء على تشويه الاحتجاج بتعلاّت الدفاع عن مصلحة البلاد. تضافر هذه العوامل، إضافة إلى حرق مقر حزب العمال بإحدى مدن محافظة سليانة، يحيل إلى أن أمر الاحتجاج لم يترك لسيره الطبيعي السليم في المناخ الديمقراطي، (إذا افترضنا الإجماع حول رفض التخريب والحرق واعتباره خارج سياقات الاحتجاجات المدنية السلمية)، بل تم الانزياح نحو اعتباره ضربا من خيانة البلاد والتآمر مع أطراف خارجية لا تريد للبلاد خيرا، وهو كلام يذكر بالقاموس المعتمد لدى الأنظمة القائمة على منطلقات عقائدية ودينية. تشويه الاحتجاج الذي انطلق من كونه يضر باقتصاد البلاد، واستند على تهوين أو تقليل من قيمة وأثر الزيادات، لم يكن تشويها باحثا في حقيقته وعمقه عن مصلحة البلاد، بل كان ركونا على الانتماء الحزبي، وفي الذاكرة مساهمة نشيطة للحزبين الأساسيين في الائتلاف الحكومي في احتجاجات سابقة، سواء بالدعم أو بالمشاركة، وسواء في الاحتجاجات النهارية أو الليلية، بل إن بعض الاحتجاجات السابقة لم تكن بنفس وجاهة الاحتجاجات الحالية. القول إن الاحتجاج يهدد مسار الانتقال الديمقراطي أو أنه لا يجوز الدعوة إلى إسقاط نظام ديمقراطي قول ضعيف ومتناقض، لأن الديمقراطية لا تقوم فقط على الانتخاب بل هي مناخ سياسي وإعلامي واجتماعي متكامل يقبل الموقف الناقد والرافض، بل إن الاحتجاج السلمي هو أحد مظاهر صحة أي نظام ديمقراطي. الأزمة في تونس لا تحتمل المزيد من إدارة الظهر للحقيقة، والحقيقة التي لا تحبذ الحكومة التونسية سماعها تتمثل في أن ما ينقص البلاد هو إرادة سياسية شجاعة تطرق الأبواب الحقيقية للحل، وتفادي تكرار الحلول القديمة التي ثبت عقمها. أما نقاش معنى الاحتجاج وشكله وتوقيته، أو الجدل حول مفهوم المواد الأساسية التي خضعت للزيادة، فهو نقاش عقيم لن يؤدي سوى إلى المزيد من تعميق الأزمة. في السياسة طرف يحكم ويتحمل مسؤولية حكمه وخياراته، وطرف يعارض ويبحث عن هنات الحاكم بل يسعى إلى إسقاطه، والفيصل هو مصلحة الوطن لا مصلحة الأحزاب، وفي مصلحة الأحزاب انتماء أيديولوجي أو عقائدي لا يبقي ولا يذر. كاتب تونسيعبدالجليل معالي
مشاركة :