الجدل الدائر في تونس، حول التصنيف كان في وجهه الرسمي مشوبا بالكسل والسلبية. كسل يتفادى التعمق في الظواهر الحقيقية التي أدت إلى ذلك، وسلبية ارتدت رداء المظلومية من قبيل القول بأن الإجراء ظالم وجائر.العرب عبدالجليل معالي [نُشر في 2018/02/11، العدد: 10897، ص(4)] تصويت البرلمان الأوروبي الأربعاء الماضي على قرار إدراج تونس ضمن القائمة السوداء للدول المعرّضة بقوة لخطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لم يمثل فقط مضافا دوليا جديدا للمتاعب التونسية الجمة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بل مثّل أيضا قرارا اقتصاديا ستكون له مآلاته السياسية الكثيرة على مشهد البلاد المأزوم أصلا، وسينعكس تبعا لذلك على أيام التونسيين وأوضاعهم في الاقتصاد. الأمر أقرب إلى حلقة مفرغة، منطلقها موروث سياسي من فترة ما قبل الثورة وما بعدها، يؤثّر في وضع الاقتصاد، الذي يطبع بدوره المشهد السياسي وهكذا بلا توقف. ويمكن أيضا قلب الترتيب لقراءة المشهد من مقدمات الاقتصاد التي تؤثر في السياسة، وفي الحالتين فإن أوضاع البلاد والعباد تراوح مكانها. لم تكد تخرج تونس من تصنيف سابق للاتحاد الأوروبي اعتبرها في شهر ديسمبر من العام الماضي ملاذا ضريبيا، حتى وقعت في تصنيف آخر وضعها في قائمة الدول الأكثر عرضة لمخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. تصنيف أوروبي جديد يساءل كل المسار السياسي والاقتصادي الذي تتّبعه البلاد، ويضع أسئلة جمة حول طرق تعاطي مؤسسات وهيئات ووزارات كثيرة مع قضايا الإرهاب والأموال السائبة نحو البلاد ومنها. المهم في تخوم الإجراء الأوروبي الجديد وحواشيه، لا يكمن فقط في مآلاته وارتداداته، وهي خطيرة بلا شك، لكنه يكمن أيضا في دواعيه وطرق التفاعل مع الإجراء بوصفه يهم الناس وبوصفه منعرجا قد يزيد طين الأزمة بلّة، وهو تفاعل لا يرسم مسارا مغايرا عن الأخطاء التي أدت إلى اتخاذ التصنيف، ولا يلتقط الدروس مما رافق التصنيف السابق من حيثيات. الجدل الدائر في تونس، حول التصنيف كان في وجهه الرسمي مشوبا بالكسل والسلبية. كسل يتفادى التعمق في الظواهر الحقيقية التي أدت إلى ذلك، وسلبية ارتدت رداء المظلومية من قبيل القول بأن “الإجراء ظالم وجائر”، وربما يضاف في مضمر القول أنه يضرب مسار الانتقال الديمقراطي في مقتل. التقى في اعتماد هذا التوصيف السلبي الكسول، وزير المالية في تونس رضا شلغوم الذي اعتبر “القرار الأوروبي اعتمد تقييمات قديمة”، مع بيان حركة النهضة الذي اعتبر أن القرار “ظالم في حق تونس وفي حق ما تقوم به من إصلاحات وما تراكمه من تشريعات مهمة لبناء منظومة محكمة وقوية وفق المعايير الدولية لمحاربة تبييض الأموال ومقاومة الإرهاب”. الكسل أو السلبية أو المظلومية أبعاد تتفادى الإقرار ببعدين لهما تناص كبير مع الإجراء. الأول سياسي متصل بضرورة تذكّر المناخ السياسي والأمني الذي كان سائدا طوال سنوات ما بعد الثورة، حيث كانت الأموال تتهاطل على الجمعيات والأحزاب والفعاليات التي تناسلت وتكاثرت بشكل عجيب في تلك الأيام. وبما أن الصلة وثيقة بين الإرهاب والتهريب وتبييض الأموال، فإن بعض الأصوات التونسية كانت طالبت منذ سنوات بضرورة مراقبة تمويل الجمعيات والأحزاب وتشديد الرقابة على شبكات التسفير والضرب بقوة على الاقتصاد الموازي والتهريب، وكلها أنشطة متجاورة ومتداخلة، لكن تلك الطلبات عُدّت وقتئذ ترفا سياسيا أو استدعاء لعقلية المؤامرة أو من قبيل لزوم ما لا يلزمُ أما البعد الثاني فهو كامن في المسألة الإجرائية، وقوامها أن السلطة التونسية ما كان يجدر بها أن تفاجأ بالتصنيف ومعاييره ودواعيه، لأنها ببساطة على علم بذلك منذ فترة. وهو بعد أكده ووفّر قرائنه سفير الاتحاد الأوروبي بتونس باتريس بيرغاماني، في تصريح إذاعي أدلى به الخميس حين أكد أن “السلطات التونسية كانت على علم مسبق بهذا التصنيف”، وقال إن التصنيف “ليس عقابا بقدر ما سيمكّن البلاد من فرص أكبر لليقظة والإصلاح ومقاومة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”. التفاعل التونسي الرسمي مع القضية اتخذ مسارات عديدة، تلتقي في كونها لم تذهب إلى عمق المسألة؛ إعفاء محافظ البنك المركزي، أو مواقف وزير الخارجية من كون “الجهود ستستمر من أجل استبعاد تونس من التصنيفات الظالمة في قوائم لا تراعي الخصوصيات الاقتصادية لبلادنا والإصلاحات الهيكلية الجاري إنجازها”، أو تصريح وزير المالية الذي استند إلى قراءة اختزالية للحدث تقوم على أن التصنيف الأوروبي “لم يكن بالأغلبية المطلقة” في البرلمان الأوروبي، وأن “357 نائبا صوتوا لفائدة تونس ودافعوا عليها في مداخلاتهم وهو ما يفتح المجال واسعا للخروج من هذه الدائرة وفق برنامج واضح”، وأغفل عدد الذين صوتوا لصالح القرار وأهمل الأسباب فضلا عن المراسلات والتنبيهات الأوروبية، هي كلها عيّنات على طريقة تفاعل تتهرب من المسؤولية (مسؤولية توفر الأسباب كما مسؤولية إهمال التمشي الإجرائي المفترض كما مسؤولية اتخاذ القرارات اللازمة لمحاسبة المقصّرين) وتجنب الخوض الحقيقي في عمق القضية وإعادتها إلى أصولها ومنطلقاتها، وهي هنا سياسية وأيديولوجية، وهنا مربط الفرس. ذلك أن الحكومة المسيّرة بائتلاف قوامه الحزبان الكبيران، النهضة والنداء، ستعوزها بالضرورة القدرة على الذهاب إلى موطن الداء، وعدم القدرة عائد إلى تلك المقايضة الجارية بين الحزبين من الاتفاق على حكم البلاد. ليس مستبعدا أن يتراجع البرلمان الأوروبي ويسحب تونس من قائمة الدول الأكثر عرضة لمخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، على غرار ما حصل في التصنيف السابق، لكن الأهم في الحدث هو الأرضيات التي تضافرت للوصول إليه، والمهم فيه هو التقاط التعامل الرسمي الكسول الذي يستعيض بالتظلّم والشكليات عن الغوص في الأسباب ومحاسبة المتسببين. وفي غضون ذلك يواصل الاقتصاد التونسي انحداره، وتواصل الهواية السياسية سيادتها وسطوتها، وتستمر الهفوات والزلات بلا محاسبة، وستذهب أزمة التصنيف الجديد كما ذهب سواها، لكن الثابت أن أي عقل عادي يمكنه بما توفر من معطيات، أن ينطلق من هذا التصنيف أو ما سبقه، ليتبيّن أن كل هذه “الحوادث” هي مقدمات لمتاهة تونسية قيد التشكل. وإلى تصنيف قادم يسمح لثقافة المسؤولية بأن تسود. كاتب تونسيعبدالجليل معالي
مشاركة :