الديمقراطية التي تتشدق بها الأنظمة القائمة بعد الربيع العربي، تقتضي وجود الفعل المدني السلمي الذي يعبّر عن رفض السياسات القائمة.العرب عبدالجليل معالي [نُشر في 2018/01/17، العدد: 10872، ص(13)]وقفة سلمية مدنية مشروعة الاحتجاجات التي اندلعت في تونس مؤخرا، على خلفية إصدار قانون المالية الجديد، لم تفض فقط إلى الاختلاف حول حق الاحتجاج من عدمه، ولم تؤدّ فقط إلى نقاش مرتكز حول الفرق بين الاحتجاج والتخريب، أو الفرق بين المواد الأساسية والكمالية. النقاش المترتب حول الاحتجاج طال الاحتجاج ذاته، ومداه وحدوده ومشروعيته، في هذه الظروف العسيرة في الاقتصاد والأمن والسياسة. لسنا في حاجة إلى بيان أن التخريب ليس من جنس الاحتجاج وإن اقترن به في الكثير من المناسبات، بل إن التخريب نقيض الاحتجاج وغريمه، إذ انطلقنا من أن الاحتجاج فعل مدني راق، يتقصّد نقد الأوضاع أو يدعو إلى تغييرها. ما يضيف للأشكال الاحتجاجية وجاهتها، هو أن الواقع الذي أفرزه الربيع العربي لم يكن في حجم انتظارات الناس، بل كان مخيّبا لكل الآمال التي عُقدت على الحدث منذ سبع سنوات عجاف، حيث تردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغاب الأمن وتراجعت الثقافة، وتوفرت كل أسباب ومقومات الاحتجاج ومنها تحديدا أن الحكومات المتعاقبة في تونس، أو في غيرها من بلدان الربيع، لم تنجح في تقديم دليل على أن مرحلة جديدة بصدد التبلور، بل إن الملاحظ هو تكرار الأداء السياسي والتعاطي الاقتصادي نفسه الذي كان معمولا به قبل ثورات يفترضُ أن تجبُّ ما قبلها. الديمقراطية التي تتشدق بها الأنظمة القائمة بعد الربيع العربي، تقتضي وجود الفعل المدني السلمي الذي يعبّر عن رفض السياسات القائمة، وهنا تصبح الاحتجاجات أدلة تؤكد ديمقراطية النظام القائم من عدمها.الاحتجاج صنو للعقل السياسي المعتدل الذي يعيد للسلطة الحاكمة صوابها، ويصبح التخريب الذي يتلبس لبوس المظاهرات إجراما كامل الأوصاف فعندما واجهت الحكومة البريطانية آثار الأزمة المالية العالمية ورفعت رسوم الدراسة الجامعية وتظاهر الطلبة ولم تجد الحكومة حلولا أخرى، صمد كل في موقعه لعدة أسابيع، فالحكومة المنتخبة ترى حلولا علمية لا شعبية لها، والشعب يرى أن الحكومة الصالحة هي التي تتجاوب مع مطالبه. وعندما تظاهر الآلاف من البريطانيين في شوارع لندن في شهر يوليو 2017، احتجاجا على تدابير التقشف التي اتخذتها، آنذاك، حكومة تيريزا ماي، واعتبروا أن رئيسة الوزراء خسرت الشرعية بعد النكسة التي لحقت بها في الانتخابات التشريعية في 8 يونيو، ورفعت شعارات حادة من قبيل “أيها المحافظون.. اخرجوا”، تعاملت وسائل الإعلام والطبقة السياسية برمتها مع تلك الأحداث بوصفها ناقوس خطر يشير إلى أن الوضع السياسي البريطاني لا يسير في خط سليم، وصدرت تلك القراءات من مختلف التيارات السياسية التي أجمعت على أهمية الإنصات لصوت الشارع، لأنه المعيار الحقيقي لتقييم الأداء السياسي لنظام أو حكومة ما. العناصر الأساسية التي ترفع السياج بين الاحتجاج والتخريب، والتي ترفع الالتباس بينهما وتمنع كل تأثيم أو توظيف تقوم أساسا على السلمية واحترام القانون، في هذه الحالة يصبح الاحتجاج صنوا للعقل السياسي المعتدل الذي يعيد للسلطة الحاكمة صوابها، ويصبح التخريب الذي يتلبس لبوس المظاهرات إجراما كامل الأوصاف. وهذا التمييز ضروري للطرفين: الحاكم والمحكوم. الحاكم لكي لا يستسهل تشويه الاحتجاج وتأثيمه درءا لمخاطره وذودا عن كراسيه، والمحكوم لكي يتبيّن أنه حين يحتج يمارس حقه، وحين يخرّب أو يحرق فإنه معرّض للمساءلة وفق القوانين الجنائية. قدم التعاطي الرسمي مع الاحتجاجات الأخيرة في تونس، ولعلها حدثت في نسخ أخرى أيضا، مقايضة مضمرة، قوامها أن الاستقرار والازدهار والتنمية أهداف مرهونة بتوفر الأمن، (وهو قول صحيح وقابل للتنسيب) وهي مقايضة تحولت إلى تعليل أو تبرير تقدمه كل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد، فالرئيس السابق المنصف المرزوقي كان يردد أن الدولة العميقة والنقابات والاحتجاجات حالت دون تحقيقه للرخاء والخير العميم الذي وعد به البلاد. هي مقايضة قائمة الآن، وتستعمل أيضا بمفعول رجعي لتبرير الفشل السابق، وهي دليل على وجوب قلب المعادلة، وتبيّن أن المعضلة ليست في الاحتجاج وإنما في الخيارات المعتمدة التي لا تؤدي إلا إلى الفشل، لأنه حتى في الفترات الطويلة التي لم تعرف البلاد خلالها أي احتجاج لم تتغير الأوضاع ولم تبرح مكانها، فضلا عن كون التعامل السلطوي الذي يركنُ في الغالب إلى الحلول الأمنية من قبيل قوانين الطوارئ وحظر التجوال، هو أيضا تعامل يزيد طين الأزمة بلة. إذا كان من منجز يسجل في هذه السنوات، فهو منجز الحرية؛ حرية التعبير وغيرها، والثابت أن الحرية تعني في جوهرها الاحتجاج على كل سياسة لا تنفع البلاد والعباد.
مشاركة :