لا أعتقد أن هناك من ينكر، أن الرجل الكبير ــ وهو في رحاب الله ــ لا يزال يمثل رمزا لشموخ وكبرياء هذه الأمة، بعد أن أعاد تقويم مسيرة التاريخ العربي بعد عشرات السنوات من الضياع والاحتلال والسقوط تحت سلطات مستعمرات النفوذ والمصالح . وهو ما عبرت عنه كلمات طبيب فلسطيني «د. عصام حبش»، عن معان انسانية لتصحيح «صورة» ومسار التاريخ العربي.. قال ليّ قبل سنوات ونحن في الأردن : كنت أدرس الطب في ألمانيا، بداية الخمسينيات، وكان الزملاء الأوروبيين يقولون لنا قبل جمال عبد الناصر: «فين ذيلك يا عربي»، ولكن بعد جمال عبد الناصر وانتصارات 1956، كانوا يلوحون لنا بأيديهم ويقولون «ناصر .. ناصر». كانت مصر والأمة العربية، مع بشائر يوم 15 يناير 1918 مهيأة تاريخيا لدور الفرد التاريخي، القائد أو الزعيم ..رجل له خصائص وموارد إنسانية وكفاءات شخصية تتيح له أن يستوعب آمال وتطلعات الآخرين من مجموع الشعب، وأن يتولى مهمة تحقيق مجموعة أهداف مشتركة.. وهنا برز دور جمال عبد الناصر، رجل استوعب حلم الأمة، وجسد إرادتها، وحرك هممها، وأعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة .. وأصبح الرجل رمزا لتيار عريض ممتد عبر كل الحدود السياسية في العالم العربي .. وكان الرجل مدركا ــ وبوعي استراتيجي لعبقرية الموقع وبأحكام الدور المصري ــ بضرورات وحتمية الارتباط وبالانتماء للموقع الأكبر، للعمق الاستراتيجي العربي وعلى امتداد ساحة من المحيط إلى الخليج ، ودون إغفال للأهمية الاستراتيجية للدائرتين الأفريقية والإسلامية. ويبقى دور جمال عبد الناصر، رقما بارزا في حسابات التعريف التاريخي لدور الفرد في مرحلة تاريخية «مفصلية ومصيرية».. وقد أدرك بوعي مبكر، أن مصر المنكفئة على ذاتها مآلها الإندحار والفناء. كانت دراسة الطبوغرافيا والجغرافيا السياسية للمنطقة، وقراءته لتجربة محمد علي قد جذرت وعيه بفكرة الأمة العربية الواحدة.. وكانت تجربة حرب فلسطين 1948 وفشل الجيوش العربية في هزيمة المشروع الصهيوني والدفاع عن فلسطين وشعبها قد قادته إلى ادراك عجز الدولة القطرية عن تحقيق التنمية المستدامة وبناء جيش حقيقي قادر على الدفاع عن الوطن.. وكان يؤمن في أعماقه أن بناء الإنسان هو الطريق الصحيح لبناء الأوطان ومن هنا أصبحت جدلية الترابط بين الوحدة والحرية والتنمية والعدل الإجتماعي من بديهيات التزامه النضالي لا أحد ينكر ـ ولا يحق له أن ينكر ـ أن الأمة العربية كانت على موعد مع التاريخ، قبل مئة عام، في ذلك المساء من يوم الإثنين الخامس عشر من يناير / كانون الثاني 1918 حين ولد الطفل الأول لموظف «البريد» الصعيدي البسيط، عبد الناصر حسين خليل، وفي تلك الليلة العاصفة شديدة الأمطار من شتاء مدينة الإسكندرية، في موسم يطلقون عليه «أنواء الفيضة الكبيرة»، وكانت حيرة الرجل الصعيدي «البوسطجي» : ماذا يفعل أمام تقلصات الولادة لزوجته وهو غريب عن الاسكندرية، ويكاد لا يعرف أحدا في شارع القنوات بحي باكوس، سوى مساعدة سيدة من الجيران المقربين .. وحتى أنقذته من الحيرة والقلق صرخات المولود الجديد، التي غيرت كل شئ بعد 34 عاما في مصر والوطن العربي، و انتقل التأثير والتغيير إلى دول القارة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية، مرورا بدول من العالمين الثاني والثالث، شكلوا كتلة «عدم الانحياز» في مواجهة نفوذ القوتين الأعظم، وقتئذ، «الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية».. وتبلورت حركة عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ في إندونيسيا 1955 برعاية ثلاث قيادات عالمية : الشاب العربي جمال عبد الناصر حسين (37 سنة).. والزعيم الهندي جواهر لال نهرو (على أبواب السبعين 67 سنة)..والزعيم اليوغسلافي، جوزيف بروز تيتو 64 سنة. في صباح يوم الثلاثاء السادس عشر من يناير / كانون الثاني 1918، كانت مصر على موعد مع (رجل العدالة الاجتماعية ونصير الفقراء) .. وكان العرب على موعد مع (رجل القومية العربية ).. وكانت أفريقيا على موعد مع (رجل التحرير) .. وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية كانت أمريكا اللاتينية أيضا على موعد مع (رجل الثورة .. النموذج والقدوة ) .. وكانت دول العالم النامي، من عالم المستوى الثاني والثالث على موعد مع (رجل الاستقلال، المؤسس للكتلة الدولية الثالثة في العالم.. عدم الانحياز).. بالطبع لم يكن أحد يعلم الغيب حتى يدرك بأن هذا الطفل سوف يقوم بدور استثنائي عظيم يسنده إليه القدر .. وإن كان الكاتبان الفرنسيان جاك دومال وماري لوروا، قد استشهدا بواقعة انفجار المظاهرات عام 1930 ضد دستور إسماعيل صدقي، حين وقع غلام لا يتجاوز عمره الثانية عشرة ، تحت ضربات أحد رجال الشرطة، فنهض من جديد وعاد إلى منزله والدماء تسيل من وجه ، كان إسم الغلام جمال عبد الناصر، وهو على بعد أكثر من 1000 كيلو مترا من قريته «بني مر» في صعيد مصر، وكانت الواقعة هي الإشارة الأولى كما يرى «جاك دومال وماري لوروا» لغلام يتسم بالحيوية والشهامة وبحرارة الدم المميزة لأهل الصعيد، وهو نفس الشاب الذي أصبح رئيسا لمصر ويرسل خطابا من مكتب رئيس الجمهورية، إلى أستاذه في اللغة العربية «محمد أحمد القوراني» يشكره فيه لدروسه في القومية العربية، وفي زمن لم تكن القومية المصرية تسير على خط متلاق مع القومية العربية. وهي إشارات تاريخية، ترجمها فيما بعد أديب فرنسا الكبير، أندريه مالرو، بالقول «إن عبد الناصر كان تجسيدا لأمته في مرحلة تحول هام، وكان وسوف يبقى لسنوات لا نستطيع من الآن أن نرى مداها، تجسيدا في الحياة لمصر والأمة العربية» .. وحين تجسد موعد التاريخ في صورة شاب ـ 34 سنة ـ يقود ثورة الضباط الأحرار، ويصبح رئيسا لمصر، بدأت رياح التغيير تهب على العالم العربي، ولم يعد منطقة يمكن أن يتخذ بشأنها القرارات في خارجها، كما كان، وحتى لو حدث كان «ناصر» يحبط كل محاولة في مهدها، ويقلب الطاولة على المشاركين ومن بينهم أطراف عربية، كان هواها غربيا !! كانت مصر على موعد مع القدر، وهي تعاني ظلما وقهرا، وسوء توزيع لثروات الوطن، وغياب للعدالة الاجتماعية، وقد بلغت نسبة الفقر والأمية 90% من أبناء الشعب المصرى، ومعدلات المرض حققت أرقامــا قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التى تنتج عن سوء التغذية، وكانت نسبة المعدمين من سكان الريف 80% من جملة السكان عام 1952 ، وغالبية الشعب المصري من الحفاة وخاصة في الأرياف والأقاليم، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% من تعداد الشعب، فى الوقت الذى كان يعمل فيه الغالبية فى وظائف دنيا ــ سُعاة وفراشين ــ وكانت آخـر ميزانية للدولة عام 1952 تظهــر عجزًا قــدره 39 مليون جنيه، فى حين كانت مخصصات الاستثمار فى المشروعات الجديدة طبقـًـا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا، فقد كان الاقتصاد المصرى متخلفــا وتابعا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير. كانت تلك أبرز ملامح الصورة لمصر حين تولي الشاب جمال عبد الناصر ـ 34 سنة ـ مسؤولية إنقاذ الوطن .. وكانت الأمة العربية، ومن الساحل إلى الساحل، من شواطىء البحار وحتى حواف الرمال، في حالة أسوأ من الغياب، ثم كان موعد الأمة مع القدر، حين أعطى الشاب أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم. ولذلك لايزال الرجل متفردا بزعامته في وجدان الأمة، وأن يتحرك خاطرا يحوم حولها كل يوم ، وطوال تلك السنوات التي لا نعرف لها نهاية .. ولا يبدو أن لها نهاية مقدرة حتى الآن !! والزعماء خالدون بما أعطوا، وبما تركوا، وبما رسخوا من مبادئ وقيم ومواقف .. وفي جانب كبير من هذه الصورة كانت حياة «ناصر» ملكا لأمته وقارته الأفريقية ، وكانت أفعاله أقوى وأمضى من كل الأفعال..ومثل هذا لا يزال قائما فوق ساحتنا العربية وخارجها ..وهذا ما تقوله حقائق الزمن الراهن !!
مشاركة :