إذا جاز لنا أن نضع سمة رئيسة لثقافة العصر ، فهي حسب رأيي : العنف . ممارسات العنف الجماعية منها والفردية ، في الشرق والغرب ، ليست ناتجة فقط عن التطرف الفكري ومناخ التعبئة الأيديولوجي السائد في كل مكان تقريباً من الكرة الأرضية . ممارسات العنف هذه ناتجة حسب رأيي ، وفي المقام الأول ، عن نسق ثقافي نجح بشكل غير مسبوق ، وربما بدون قصد ، في استكشاف مساحات شاسعة من الميول العدوانية - لم تكن معروفة من قبل - في النفس البشرية . مظاهر العنف التي ترتكبها الجماعات الإرهابية ، فضلاً عن بعض الجيوش النظامية ، ومنها جيش العدو الإسرائيلي ، ليست وحدها التي يجب التركيز عليها عند تحليل ما يمكن أن نطلق عليه : ثقافة العنف . العنف الذي يمارسه الفرد سواء في الغرب أو الشرق ، في الشمال أو الجنوب ، في مجتمعات الرخاء أو مجتمعات الفقر ، اتخذ أشكالاً عجيبة من الوحشية ، مع ملاحظة افتقار الجناة في كثير من الأحيان ، للدوافع التقليدية لممارسة هكذا نوع من العنف . وما جرائم القتل الجماعي التي يقوم بها بعض المختلين والمهووسين في الغرب ، إلا نموذج للتغيير الذي طرأ على سيكولوجية المجرم وعلى مجموعة الدوافع التي تحضه على ارتكاب القتل . وهو ما تعرض له الفيلم الأمريكي ( 7 ) الذي أرى أنه تحفة فنية سيخلدها تاريخ الفن السينمائي . في رأيي أن هذا المستوى المتصاعد والجنوني من العنف ، هو نتاج ثقافة شاملة .. وعندما أقول ثقافة شاملة ، فإنني لا أقصد الخطاب الفكري والأيديولوجي فحسب ، وإنما أقصد أيضاً ، كل ما يخاطب حواس الإنسان من سمع وبصر ، وكل ما يمكن أن يؤثر في الوجدان واللا وعي الجمعيين . الإنسان في عصرنا يتعرض لممارسة العنف منذ أن يستيقظ إلى أن ينام . شاشات التلفزيون التي تخاطب الغريزة بفجاجة ، والتي اعتادت على تقديم وتسويق نماذج أنثوية وذكورية ، هي أقرب ما تكون إلى امتلاك مواصفات الجسد المثالي ، تمارس عنفاً بصرياً صارخاً على المشاهد . مشاهدة هذه النماذج تولد الحسرة وتخلف مشاعر تتراوح بين الإحباط والشهوة المسعورة وقلة الحيلة والحقد . كما أن تقديم النموذجين المثاليين للأنوثة والذكورة ، باعتبارهما قطعتي لحم معروضتين على فاترينة الشاشات ، هو نوع من العودة بالإنسان إلى المستوى الغرائزي المحض ، حيث يحتل العنف والخوف والشهوة العمياء والطمع ، الحيز الأكبر من الوجود الإنساني . من ناحية أخرى فإن تصاعد مستويات الرفاهية في حياة البشر ، وصعوبة التنبؤ بالسقف الذي يمكن أن تقف عنده ، هو أحد أهم العوامل التي أدت إلى تسطيح مستوى الوجود الإنساني . نحن كبشر لم نعد نعرف في الغالب ، عن الجانب الأعمق من الوجود شيئاً يذكر . حتى على مستوى العبادات التي تكاد تنحصر الآن في الشعائر الدينية وحدها ، فإننا لم نعد نتمتع بالعمق الكافي للوصول إلى فلسفة المحبة والتوازن والسلام النفسي التي تساعد الشعائر على الوصول إليها . تصاعد مستويات الرفاهية أيضاً ، زرع بذور الرغبة في العدوان عند معظم طبقات المجتمع البشري . اليوم لم تعد مظاهر الفروقات بين حياة الطبقات كما كانت عليها في الستينات أو السبعينات أو حتى الثمانينات من القرن الماضي . لقد تجاوز الأمر كل الحدود وبات سبباً في اختلال توازن الأغلبية غير الثرية ، وهو ما يجعلني أقول بضمير مرتاح ، إن مظاهر الترف الشديد التي يمارسها الأثرياء ، أصبحت تندرج تحت خانة العدوان على غير القادرين على مجاراتهم . الأجيال الجديدة لديها ألف سبب وسبب لممارسة العنف ، فهم يتعرضون للعدوان على مدار كل دقيقة من حياتهم . حتى الموسيقى الصاخبة التي باتت مشتركاً بشرياً ، هي إحدى ممارسات العنف التي تنتجها الثقافة العصرية في حق أبنائها . لذلك فإننا يمكن أن نتفهم شعور كثير من الشبان باليأس . المشكلة أن هذا اليأس لا يقضي على الرغبات المسعورة التي تتمحور في الغالب حول الحصول على أقصى درجات اللذة والرفاهية ، بقدر ما يعمقها . وهذا بالتحديد هو ما جعل كثيراً من الشبان المنضوين تحت ألوية التنظيمات الإرهابية ، يرحلون هذه الرغبات إلى الآخرة بدلاً من الدنيا . إنهم في الأساس ضحايا عدوان منظم تستخدمه الفضائيات على أبصار الناس ، ومما يجعل هذا العدوان أكثر فداحة ، هو ربط الأجساد المثالية بمظاهر ترف يستحيل على الغالبية من الناس ، الوصول إليها . القضية ليست فقط قضية خطاب ديني خلق ما يعايشه المسلمون اليوم من ظروف ، القضية قضية عالمية تعاني منها جميع المجتمعات ولكن بدرجات متفاوتة وبأساليب مختلفة . وتجليات العنف في كل بلد تختلف عن تجلياته في البلد أو المنطقة الأخرى من العالم . إن ما لا يفهمه الكثيرون ، أن الشباب من المنتمين للتنظيمات الإرهابية ، وهو ما يصدق على شيوخهم أيضاً ، هم أكثر الناس وفاء لثقافة عصرهم التي حصرت الإنسان في الجانب الحسي ، وتعاملت مع اللذة باعتبارها الغاية الأهم من الوجود ، وتوجت الترف على عرش اهتماماتها . هؤلاء الإرهابيون لا يستطيعون أن يفهموا لغة غير لغة الحس ، لذلك فإنهم وإن كانوا يمارسون التقشف ويسعون للموت ، فهم إنما يفعلون ذلك رغبة منهم في التضحية بحاضر محدود لا يشبع نهمهم ، لصالح ما هو قادم ودائم وغير محدود . إن المسألة بالنسبة إليهم لا تعدو أن تكون نوعاً من ترحيل الرغبة في الحصول على اللذة الحسية والحياة المترفة ، إلى الآخرة بدلاً من الدنيا . ولعل مقاطع الفيديو الذي انتشرت لعدد من الوعاظ وهم يشرحون بالتفصيل ، مواصفات وألوان بشرة الحور العين ، يؤكد ما ذهبت إليه .!! العنف نسق ثقافي متكامل وليس مجرد ظاهرة أيديولوجية . anaszahid@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (7) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :