تشتبك المبدعة الكويتية بثينة العيسى، بكل الأشياء - تقريباً - في روايتها الجديدة التي يزدحم غلافها بكثير من الوجوه والرموز والذكريات، وكأنه مرآة أولى تعكس ما يدور في وجدان بطل الحكاية.. المثالي الذي تتهشم أحلامه، في الوالد والحبيبة وكذلك الوطن، ما يدفعه إلى العيش مهاجراً مع مرارات بالجملة. إقبال كما معظم روايات الكاتبة الكويتية بثينة العيسى، حظيت «كل الأشياء» بإقبال لافت من القرّاء، ما جعل الرواية تحتفظ لنفسها بمركز متقدم في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً منذ صدور طبعتها الأولى في أكتوبر الماضي، إذ اجتذبت القراء، كما شهدت الرواية أكثر من طبعة خلال أشهر قلائل. يذكر أن من أعمال بثينة العيسى الروائية الأخرى التي تركت صدى، وحققت نجاحاً على المستوى القرائي: «كبرت ونسيت أو أنسى»، و«عائشة تنزل إلى العالم السفلي»، و«خرائط التيه». كما حازت بثينة العيسى (صاحبة مشروع تكوين) عدداً من الجوائز. - تجيد الكاتبة رسم تفاصيل سيد الرواية المنكسر، تجرّده منذ البداية، وتضعه بكل ما فيه من حيرة. - اكتوت الرواية بنار القرب الشديد من الواقع والحالة الراهنة، إلا أنها تمسكت بفنيات خاصة.333 صفحة تقع فيها رواية «كل الأشياء» للكويتية بثينة العيسى، الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون. تنطلق رواية بثينة العيسى «كل الأشياء» من تجربة بطلها (جاسم)، وحكايته المركبة، لتختزل كثيراً مما دار في السنوات الأخيرة، وتستدعي آمالاً وهموماً وأحداثاً، تتداعى جميعها بوعي الشخصية الرئيسة، التي يستولي بوحها المنكسر على الصفحات، منذ اللحظة الاستهلالية، ومفتتح العودة إلى الوطن، بعد أربع سنوات من الغياب بعاصمة الضباب لندن، في غياب حاول خلاله ترميم الروح، وإصلاح ما أفسدته ستة أشهر بين جنبات السجن، لكن لم يفلح في ذلك، واستجد ما يعيد شريط الذكريات، بل ويضعها في إطار أكثر درامية. تعدّ حكاية (جاسر) التي تشغل رواية «كل الأشياء»، التي صدرت حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون، محاولة للبحث عن معنى الأشياء الحقيقي، وتجريدها مما حولها، للوصول إلى قناعة شخصية ما، مغايرة عن السائد، فهي بمثابة رحلة، أضنت صاحبها ومن ارتبطوا به، عانوا كما عانى، ونالوا نصيبهم من ذلك الاغتراب الذي بدا أن (جاسر)، صاحب الحكاية، هو من تحمّل الجانب الأكبر منه. قلق تطرح «كل الأشياء» أسئلة بالجملة، وتحفل بعلامات الاستفهام، تستثمر قلق الشخصيات وصراعها النفسي، تجيد الكاتبة بثينة العيسى رسم تفاصيل (جاسر)، سيد الرواية المنكسر، تجرّده منذ البداية، وتضعه بكل ما فيه من ضعف وحيرة منذ الفصل الأول، لتجعل القارئ متعاطفاً حيناً مع تلك الشخصية، وعاتباً عليها أحياناً، يردد مع من يحاول تذكير (جاسر)، بأن تجربته ليست نهاية العالم، وأن الأشهر الستة التي قضاها في السجن، لا تستحق كل ذلك التيه الذي يرمي نفسه، والتنازع الذي يعصف بوجدانه، وبدفع فاتورته غالية، هو ومن حوله من أحبة، قد يبدون في الظاهر متماسكون، وبالباطن هم أكثر هشاشة من ذلك البطل. مع عودة (جاسر) إلى بلده، ورجوعه الإجباري لحضور جنازة والده، تبدأ الحكاية والأسئلة عن الماضي والحاضر، يستعيد ذلك الشاب قصته مع والده وحبيبته ووطنه، الثلاثي الذي يشكل حياته بكل ما فيها.. فالأب الكاتب صاحب مقالات الصفحة الأخيرة التي ينتظرها آلاف القرّاء، ترك كثيراً في نفس ابنه، ندوباً عميقة، لم يداوها البُعد، وتجدّد آلامها العودة حتى وإن كانت لتشييع الوالد، ذلك ما تبدو عليه البدايات، وما أتقنت رسمه الرواية، لاسيما في مشهد الوداع، حيث «الابن العاق»، الذي لم يستطع أن يمثّل حتى أمام الناس احترام الأب، وليس محبته، فالأعمام الذين حضروا الجنازة دفعوا (جاسر) لكي يقبّل أباه قبل أن يهيلوا التراب عليه، وحين استجاب الابن بعد محاولات، انهار مستذعياً ما يراه سبباً في مأساته، وما تعرّض له. كما تحضر الصديقة - الحبيبة (دانة)، من شغلت حيزاً كبيراً من الرواية، ومن قلب بطلها، منحته الكثير، وأورثته الكثير من الهموم.. وقفت معه حين المحنة وفترة المعاناة بالسجن، ولكنها اختارت درباً آخر، حين آثر هو ترك الوطن والهجرة إلى لندن، ونسيان ما مر به. قضت (دانة) في حادث سيارة، ولكن حين يعود (جاسر) تتبدى سيناريوهات أخرى لذلك الحادث، ويسعى الحبيب القديم إلى معرفة الخفي، ويكشف ما يعتبره مستوراً، قضية فساد كبرى، أو هكذا يراها، تسببت في دهس (دانة) والتخلص منها، هي وزميل لها في الشركة ذاتها، لتتسع الدوائر وتتشابك، وتصبّ في النهاية في منبع واحد، كما يرى ذلك البطل المأزوم الذي يعاني اغتراباً، لم يعوضه شيء، ولم يفلح في علاجه حنان الأم العجوز، ولا حتى كلمات الأخ عن المبالغ التي كان يتركها لـ(جاسر) خلال زياراته له في لندن، إذ كان يرسلها له الأب.. من يعتبره (جاسر) سبباً في مأساته. روح متمردة بين أكثر من فضاء تضرب الرواية، رغم انغماسها في واقعها المعاصر، تستحضر ملامح من تاريخ المكان وناسه، تهيم بين أسواق قديمة، تتذكر روحاً متمردة من أكثر من 70 عاماً، وكذلك أصواتاً صمتت بعد أن ملأت الأسماع طرباً، تتنقل من زمن إلى آخر، تكون في فقرة مع (جاسر) بمحبسه الانفرادي، وتذهب في أخرى إلى حالة مغايرة، مستدعية لحظة مختلفة، تنسجها الكاتبة بثينة العيسى مع نقيضها، كما صنعت كذلك مع سردها الذي تتخلله حوارات تعكس كثيراً من الخفايا، وتجعل القارئ يستشعر أنفاس الشخصيات وهمومها دون وساطة ربما. رغم أن الرواية اكتوت بنار القرب الشديد من الواقع والحالة الراهنة، إلا أنها تمسكت بفنيات خاصة، ولم تجرفها المباشرة الفجة إلا قليلاً، إذ حاولت بثينة العيسى أن تعالج اللحظة، على ألسنة شخصياتها، خصوصاً (جاسر)، رجل الأبيض والأسود والمثاليات، من يعتب على الأهل أنهم يظلون متمسكين بصنبور قديم مربوط بقماش قطني وأسفله سطل قديم يجمع ما يتسرب من الماء، ويطرح دوماً سؤالاً: «لماذا لا يتم تغيير ذلك الصنبور؟ لماذ نتمسك بالقديم الصدئ؟» ويأتيه ذلك حتى في أحلامه، وحينما يحاول إصلاح الحال، تتفاقم الأزمة، وينطلق الماء في كل الاتجاهات، وكأن التعايش مع الخطأ ضرورة حياة وقدر لابد منه. لم يترك (جاسر) للوالد فرصة ربما، اختنق بتجربته الخاصة، وجعل منها شرنقة غياب، وسكة هروب، وقد يراه البعض معذوراً، وقد لا يجده آخرون كذلك، وكأنه لا محل للخطأ من الكبار، والذين يمثّلهم ها هنا في الآباء والأوطان والأحبة الذي يملكون القلوب، وباستطاعتهم جعل أصحابها أسعد الناس أو أتعسهم. ومن أجواء «كل الأشياء»: «لم يحسب حساب يوم كهذا، أن يموت والده، ويعود ليخوض في الجرح حتى خاصرته، لحضور مراسم الدفن. كان يأمل أن يكون أول الراحلين، ربما متسمماً بالكحول، أمام شاشة التلفزيون، التي تبث مشاهد لطيارات روسية تقصف مدينة الرقة، أو طفل يغرق في طريقه إلى اليونان، أو تفجير في أنبوب غاز على حدود معبر رفح، أو جرافة إسرائيلية تهدم بيتاً في الخليل، أو حتى أخبار بلاده التي ما عادت بلاده، تفجير إرهابي في مسجد الصادق، العثور على ترسانة أسلحة في العبدلي، شيء سيجعل الرحيل مسوّغاً، ربما مستوجباً. لكنه، للأسف الشديد، مازال حياً، ثملاً، وعليه أن يحضر مراسم الدفن.. أن يستقبل المعزّين الذين نسي وجوههم وأسماءهم. عظم الله أجرك جاسم. لا يفهم. أجرنا وأجرك. سيرد عليهم جميعاً ولن يفهم. رفع عينيه إلى النخلة يفكر، ثلاثة أيام ثم تعود إلى لندن، تركض كالمهبول عاضاً طرف دشداشتك ونعلك محشورة تحت إبطك. أي دشداشة يا جاسم؟ وأي نعل؟ ليس عندك دشداشة، يجب أن تحصل على واحدة لحضور الدفان».محمد إسماعيلmismail@ey.ae
مشاركة :