وسائل الإعلام في العالم العربي بنصيب كبير في إدارة حرب شعواء قسمت المنطقة إلى معسكرات، وزعزعت استقرارها. وكانت مسائل الإعلام في بعض الأحيان “المدفعية الثقيلة” التي توجهها بعض الأنظمة لقصف بلدان أخرى، وللمساعدة على نشر الفوضى فيها، في مرحلة “الربيع العربي” وما بعده. فعلى سبيل المثال، حولت قطر، هذه الدولة الصغيرة التي لم تكن تذكر على الساحة الدولية قبل نحو عقدين، قناة الجزيرة إلى سلاح متقدم في استراتيجيتها للعب دور إقليمي بارز على حساب القوى التقليدية في المنطقة. وقبل الإطاحة بنظام حسني مبارك بأعوام قليلة، قال أمير قطر آنذاك الشيخ حمد بن خليفة لأحد المسؤولين المصريين، الذي كان في زيارة رسمية إلى الدوحة “إذا كانت إسرائيل تملك القنبلة النووية، فنحن لدينا الجزيرة”. هذا الإدراك لقدرة وسائل الإعلام على تشكيل المشهد السياسي حول الجزيرة، في وقت مبكر جدا، إلى “أسطورة” إعلامية، لكن سرعان ما أصيب جسم الجزيرة بفيروس قاتل هو “فقدان المصداقية” الذي آخذت صورتها على إثره تتآكل بالتدريج حتى تقدمت أعداد المشاهدة للقناة ووصلت إلى مستويات لم تعهدها منذ تأسيسها عام 1996. مدفعية إعلامية ثقيلة اليوم أجبرت الحرب الطاحنة والمخاض الجذري، الذي تعيد المنطقة من خلاله تشكيل ملامحها مرة أخرى، الحكومات على الاستثمار في وسائل الإعلام باعتبارها “القوة الفضائية” التي تمثل غطاء للقوات البرية وللدبلوماسيين في تقدمهم على أرض المعركة. لكن المعضلة تبقى في كيفية توظيف هذا السلاح الهائل وسرعة جني الثمار من ورائه.نحتاج إلى عقول تتبنى الرصانة والعمق والنزاهة كأسلوب عمل مبدئي لصناعة تغطية يمكن من خلالها توظيف الحقائق لتحقيق غايات سياسية مشروعة، في ما يشبه "بروباغندا الحقيقة" يقول متخصصون في الإعلام إن صناع الإعلام لديهم مهمة شاقة تتمثل في الإجابة على سؤال: أيهما يحقق النصر بشكل أسرع؛ نقل الحقيقة أم تحويل وسائل الإعلام إلى منصات بروباغندا لحشد الشارع خلف أجندتها؟ وتكمن الإجابة على هذا السؤال في طبيعة الظرف السياسي القائم، ومدى تقبل الحكومات والممولين الرئيسيين للقنوات الإخبارية والصحف والمواقع الإلكترونية للنقد الذاتي أحيانا. وملأت السوق الإعلامية العربية اليوم قاطرة طويلة من وسائل الإعلام، تجرها في المقدمة قنوات إخبارية تحظى باستثمارات ضخمة، لكنها تتبنى استراتيجية متشابهة. وتقوم هذه الاستراتيجية على فكرة “القبيلة”، إذ تعمل كل قناة على التحصن خلف متابعيها وداعميها، مقتربة بذلك من التحول من قناة فضائية إلى حزب سياسي. وعلى رأس هذه القنوات الجزيرة ودي دبليو (الألمانية الناطقة بالعربية)، وسكاي نيوز عربية، والعربية، والعربية الحدث، وآر تي (روسيا اليوم)، وقناة الغد، وتلفزيون العربي.. وغيرها. وتقول مصادر إن وكالة بلومبرغ الاقتصادية تستعد لافتتاح قناة ناطقة باللغة العربية في لندن قريبا. وتواجه كل هذه القنوات، المرتبطة في أغلبها بحكومات تملك أجندات متناقضة، نفس السؤال الذي واجهته هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي إبان الحرب العالمية الثانية، التي عصفت بأوروبا وغيرت بشكل عميق حدودها وموازين القوى فيها لعقود لاحقة. وتظهر مشكلة بي بي سي في كتاب جديد تناوله آد ستورتون، المذيع في بي بي سي، الأسبوع الماضي عندما حل ضيفا على “راديو 4” في برنامج “كتاب الأسبوع”، وهو كتابه الخاص “حرب أونتي” (‘أونتي’ هي كنية بي بي سي وتعني العمة أو الخالة). ويقوم مغزى الكتاب على أن الالتزام بالحقيقة في بث الأخبار أدى ببي بي سي في نهاية المطاف إلى احترام كبير، ليس فقط في بريطانيا، لكن أيضا عبر أنحاء أوروبا. وانتقلت بي بي سي على إثر ذلك من محطة راديو مملة تعتمد أسلوبا وعظيا وتميل إلى النخبوية في تغطياتها، إلى أن أصبحت “منارة أمل” بالنسبة للأوروبيين. بصفته مديرا للبث الموجه إلى أوروبا آنذاك، تزعم نويل نيوسوم ما يعتبر إلى الآن أكبر عملية بث تم إنجازها على الإطلاق بـ25 لغة مختلفة على مدى أكثر بقليل من 25 ساعة يوميا، عبر ثلاثة ترددات لموجات البث. كان نيوسوم هو من أعد الخطة لاستعمال الأخبار كسلاح في الحرب. وترأس نيوسوم ونائبه دوغلاس ريتشي “حملة النصر” المصممة لإثارة روح الصمود في أوروبا المحتلة، وكانت هذه الحملة ناجحة إلى درجة أن جوزيف جوبلز، وزير الدعاية في حكومة أدولف هتلر، حاول تنظيم حملة نصر خاصة به لتقويضها. بروباغاندا الحقيقة يملك العالم العربي اليوم شخصيات كل منها هو جوبلز، لكنه لم يملك بعد نيوسوم الخاص به. وعلى ما يبدو فإن الحكومات العربية غير مستعدة بعد لتقبل فكرة توظيف “الحقيقة” بدلا من توظيف “الدعاية” من أجل تحقيق النصر على خصومها.يفترض في الدول المحاربة للإرهاب أنها ليست في حاجة إلى أن تبني أي بروباغندا قد تفقد أذرعها الإعلامية المصداقية، إذ يكفي تسليط الضوء على أخطاء حقيقية يرتكبها الطرف الآخر لكي يقتنع المتابعون بالرسالة وأكثر الحكومات التي تملك الفرصة لفعل ذلك اليوم هي حكومات معسكر الاعتدال، التي تكافح من أجل نشر شكل من أشكال التسامح الديني اندثر منذ صعود أسهم جماعات الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، في المنطقة. وتدخل هذه الحكومات المباراة الإعلامية الدائرة وهي متقدمة بخطوات واسعة عن قطر وتركيا وإيران، وهي دول متهمة، باعتراف دولي، بدعم الجهاديين والإخوان المسلمين وجماعات إرهابية أكثر فتكا. ومن المفترض في الدول المحاربة للإرهاب أنها ليست في حاجة إلى أن تبني أي بروباغندا قد تفقد أذرعها الإعلامية المصداقية التي بات المشاهد والقارئ العربي يبحث عنها في كل مكان، لكن دون جدوى، إذ يكفي تسليط الضوء على أخطاء حقيقية يرتكبها الطرف الآخر بالفعل لكي يقتنع المتابعون بالرسالة المرجو إيصالها إليهم. ويحتاج هذا النهج أولا إلى عقول تتبنى الرصانة والعمق والنزاهة كأسلوب عمل مبدئي لصناعة تغطية يمكن من خلالها توظيف الحقائق لتحقيق غايات سياسية مشروعة، في ما يشبه “بروباغندا الحقيقة”. و”بروباغندا الحقيقة” هي التغطية التي انتهجتها بي بي سي خلال الحرب العالمية الثانية، واعتمدت من خلالها على توظيف المحتوى المتاح دون الوقوع في فخ اختلاقه. ويقوم هذا النهج على تجنب نشر الأكاذيب أو المبالغات أو أخبار غير واقعية، وإنما التركيز على ما حدث وتقديمه في سياقه الذي يستحقه، لكن في نفس الوقت توظيف هذا المحتوى المتوفر لتمرير أجندة بريطانيا، أو التحريض على مقاومة المحتل الألماني، أو الحفاظ على تماسك الروح المعنوية للشعوب المحتلة. وتوظيف الأخبار كسلاح، مع البرامج الثقافية والترفيهية والفنية، يشبه في صناعة الإعلام المزج بين القوة الخشنة المصنوعة داخل غرف الأخبار، والقوة الناعمة التي تتسلل من خلال معزوفة موسيقية جميلة. لكن استراتيجية “الوصول إلى أبعد نقطة” يوجد فيها متابعون عرب لن تتمكن من تحقيق أي من أهدافها ما لم تكن أي قناة إخبارية أو صحيفة أو موقع إلكتروني قادرة على بناء علاقة وثيقة مع هؤلاء المتابعين تقوم بالأساس على المصداقية، التي تكمن قوة التأثير بين ثناياها في المقام الأول، وليس في محتوى البث. ولا تكمن مهمة صانعي الإعلام في توجيه السباب والشتائم لخصومهم، ولكن مهمتهم الرئيسية هي خلق انطباع عام وراسخ لدى المتابعين عن هؤلاء الخصوم، اعتمادا على أدلة وحجج ووقائع حقيقية. وفي زمن تلعب فيه الإنترنت، بما تضمه من مواقع إلكترونية ومنصات للتواصل الاجتماعي باتت تنافس في قدرتها على سرعة نقل الخبر مع فضائيات تكلف الملايين من الدولارات، بات المنطق التحليلي المتحكم في أبعاد هذه العملية الحساسة والمعقدة. ويقول خبراء في الإعلام إن وسائل الإعلام العربية باتت في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى العودة مرة أخرى إلى مربع المهنية الأولى، ووضع خطوط حمراء مهنية لقفزاتها التي باتت تشكل خطورة عليها، ومحاولة السير على حافة هذه الخطوط، لكن مع الحرص على عدم تخطيها. وهذا ما قامت به بي بي سي، في أحلك لحظات أوروبا ظلمة وقت الحرب. وتمكنت هذه الاستراتيجية، التي أسسها نيوسوم ونائبه ريتشي، من خلق أسطورة بي بي سي، عن طريق استخدام الأخبار كسلاح. ودفع ذلك جوبلز إلى التحذير في سنة 1944 بقوله “هناك طريقة وحيدة يتفوق فيها البريطانيون علينا بالرغم من محدودية تفكيرهم السياسي: هم يعرفون أن الأخبار يمكن أن تكون سلاحا وهم خبراء في استراتيجتها”. لذا يبدو أن نيوسوم وريتشي كانا على حق، وآن الأوان لأن يملك العالم العربي نيوسوم، الذي يقود مرحلة تحول جذري في وسائل الإعلام، هي في أشد الحاجة إليها. كاتب مصري
مشاركة :