المحور الإيراني-التركي-القطري بات يستدعي تحركا عربيا عاجلا وفعالا، بعقلية وخطة مغايرتين تماما. القضاء على الإخوان المسلمين مهمة لم تنته بعد، ومواجهة النفوذ الإيراني مهمة لم تبدأ بعد. على العرب أن يفهموا ذلك اليوم وليس غدا.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2017/12/29، العدد: 10855، ص(9)] لم تكن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان وتونس نجاحا للدبلوماسية التركية بقدر ما كانت انعكاسا عميقا لإخفاق أي رؤية نحو بناء مشروع عربي مقابل. فهم أردوغان نقاط الضعف والقوة في المنطقة، في وقت غاب فيه هذا التقييم عن رؤية العرب. السودان وتونس بلدان رخوان. البلدان يقعان نسبيا على أطراف العالم العربي، لكنهما يحوطانه بشكل مطبق. المشكلة في هذين البلدين أن منطلقاتهما الخارجية لا تنبني على دوافع وطنية خالصة، وإنما تشوب أجنداتهما دائما تطلعات الإسلاميين وتأثيرهم، وان لم يكن أحيانا بشكل مباشر. في السودان الوطنيون في المعارضة والإسلاميون المتحالفون مع عمر البشير في الحكم، وفي تونس الوطنيون يهيمنون على الحكم، والإسلاميون يضعون قدما معهم والأخرى مع المعارضة. محاولات الخليجيين المتكررة لاحتواء هذين البلدين لم تكن كافية، لأن الإسلاميين بطبعهم انتهازيون. الخليجيون هم من منحوا فرصة ثانية للبشير وبدأوا بخطوات واسعة في سبيل إعادة تأهيله، لكن حسن النوايا في التعامل مع السودان أغفل واقعا آخر وهو أن مبدأ البشير هو اللامبدأ. لم تكن ثمة حاجة ملحة أمام البشير لتأجير جزيرة سواكن أو منحها لأحد الآن. المنافع الاقتصادية الفورية التي من الممكن أن تعود على السودان من هذا القرار لا تقارن بالأضرار التي قد تطال جيرانه. الأزمة الحقيقية مع البشير هي أنه لا ينتظر تحقيق منافع للسودان، بقدر ما يحلم بضرب العمق الإستراتيجي لمن حوله. هكذا صار نفوذ تركيا هلالا آخر في المنطقة. نفوذ الإخوان المسلمين في ليبيا وتونس، واتفاقات دفاعية مع السودان، وعلاقات اقتصادية مع تشاد، وحضور عسكري في الصومال، وتحالف مع قطر، وفي كل هذا تهديد مباشر للخليج وطوق حول مصر. رغم كل ذلك مازالت علاقات دول عربية كبيرة ملتبسة مع الأتراك. ثمة تناقض في طريقة النظر إلى أهداف تركيا وكيفية التعاطي معها. قد تكون زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى الرياض من أجل بحث تعزيز العلاقات مع السعودية، في نفس الوقت الذي يعمل فيه أردوغان على ضرب مصالح السعودية، صدفة بالنسبة لنا، لكن المؤكد أنها ليست صدفة بالنسبة للأتراك. سياسة التناقضات والإستراتيجيات المعكوسة هي الملمح الرئيسي الذي يشكل شخصية تحالف تركيا وقطر والإسلاميين. المعنى هنا يكمن في أن التعاطي مع نوايا وأجندات دول يمثل فيها الإسلاميون رقما صعبا يجب أن يكون حذرا. لا يمكنك توقع تصرفات أو طموح هؤلاء بهذه البساطة، كما يجب أيضا أن تكون مستعدا لدفع كلفة كبيرة إذا أخفقت خطة التعامل معهم لأي سبب كان. مشكلة المشروع العربي الذي تحاول السعودية ومصر والإمارات وضع أسسه اليوم هي أنه ضبابي ولا يقدم رؤية واضحة لما يريد تحقيقه. المشكلة الأخرى هي ندرة الأدوات التي قد تساعد على الوصول إلى أهداف هذا المشروع. الأدوات دائما ما تقوم على فكرة. أيا كانت هذه الفكرة، أيديولوجية أو مذهبية أو فلسفية أو غيرها. الفكرة عادة ما تمثل الغاية، والنفوذ الاستراتيجي هو الوسيلة التي تستخدمها الدول كجسر من أجل العبور إلى الغاية. الغرب مثلا يقوم على أفكار ترتبط بالحرية والديمقراطية الحقوقية ويعمل على تشكيل تحالفات وفكها وإعادة بنائها من أجل تحقيق مصالحه، ضمن مسعاه للوصول إلى هذه الغاية. روسيا تعمل في المقابل، إعلاميا وسياسيا وعسكريا، انطلاقا من فكرة صد الغرب واستعادة “الثنائية القطبية” مرة أخرى، وتبدي نجاحا ساحقا إلى الآن. إيران تقوم على حلم إمبراطوري فارسي قديم ينهض على أجندة مذهبية وطائفية محضة. وتركيا تستثمر طوال الوقت في مشروع الإخوان الذي يتوافق مع نظام الحكم في أنقرة، ويخلق تركيبة ديناميكية مبنية على المصلحة المتبادلة بين الجانبين، بهدف الوصول إلى نفس الغاية: الخلافة، عثمانية كانت أو إسلامية، لا خلاف بينهما على ذلك. كل هذه الأفكار والمعتقدات كافية لحشد شعوب هذه الدول خلف قياداتها ولتحفيز طاقاتها وخلق “براند” يمثل الدولة ويسهل بيعه في الخارج كجزء من النفوذ الكلي لها. ماذا عن العرب؟ ما هي الفكرة التي نبيعها نحن للناس ونوظفها في البحث عن نفوذ مقابل على الأقل في منطقتنا؟ هل حشد الجبهة الداخلية عبر تضخيم العدو، كما اعتدنا منذ قيام الأنظمة العسكرية إلى الآن، كاف؟ وهل سياسة الخوف من العدو يمكن أن نصنع منها “براند”؟ هل تنهض القوى الكبرى على هذه العقلية الدفاعية التي تشير إلى الأعداء دون أن تفعل شيئا حيالهم؟ وهل سياق المؤامرة كإحدى مسلمات الواقع الذي علينا قبوله كما هو بات مقبولا من الشعوب؟ العالم العربي اليوم بين قوسين. هذا ليس تشبيها سرياليا بل تعبيرا مبسطا عن الواقع. القوسان هما هلال تركي، وآخر إيراني أقدم يمتد من لبنان مرورا بسوريا والعراق وقطر ووصولا إلى اليمن. عملية “كش ملك” دون ترك أي مخارج سهلة. الآن على العرب أن يجلسوا ويفكروا كيف سيخرجون من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة. بالنسبة لمصر خصوصا الأمر صار أكثر تعقيدا. تركيا تحاول خرق الاستثمار المصري في تحالف قوي مع اليونان، الدولة التي تمثل عائقا كبيرا أمام تركيا في الفضاء الأوروبي. زيارة أردوغان إلى أثينا هذا الشهر عكست ما يدور في عقل صانع القرار التركي بوضوح. أردوغان يريد أن يكسر الطوق المصري اليوناني القبرصي في المنتصف. السودان، تحت حكم البشير، صار بالنسبة لمصر كاليونان بالنسبة لتركيا. دولة أصغر تقع على حدود دولة أخرى أكبر منها، لكن ما يفرق الدولتين أكثر كثيرا مما يجمعهما. أردوغان يعمل على الاقتراب من اليونان وترغيبها، وأحيانا ترهيبها. ماذا فعلت مصر مع السودان غير العمل مع محيطها الاستراتيجي؟ بناء علاقات قوية مع جنوب السودان وأوغندا وأريتريا شيء جيد، لكن ماذا فعلت مصر في السودان نفسه؟ سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي تنتهجها مصر مع البشير لم تعد مجدية. التفاعل السلبي مع السودان تحت وطأة عبء سد النهضة والحذر من الدور السوداني في هذا الملف مفهوم، لكن مواقف البشير وصلت إلى حد غير مسبوق. مصر انكمشت استراتيجيا أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما تحول ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى وظيفتها الوحيدة في المنطقة. لا يجب أن يتحول ملف سد النهضة إلى وظيفتها الجديدة، وأن تكتفي به في تجسيد صارخ للأيدي المرتعشة في الحكم. الدول التي تغرق في ملف واحد، وتنسى دورها في باقي الملفات، لا تستحق أن تكون دولا كبرى. القدرة على العمل على أكثر من جبهة وتحقيق أكبر قدر من المصالح في كافة الملفات يخلق احتراما دوليا لهذه الدول، ويجبر محيطها على القبول بها كأمر واقع، حتى لو كان هذا المحيط مقاوما لها بطبيعته. المحور الإيراني-التركي-القطري بات يستدعي تحركا عربيا عاجلا وفعالا، بعقلية وخطة مغايرتين تماما. القضاء على الإخوان المسلمين مهمة لم تنته بعد، ومواجهة النفوذ الإيراني مهمة لم تبدأ بعد. على العرب أن يفهموا ذلك اليوم وليس غدا. كاتب مصريأحمد أبو دوح
مشاركة :