إيناس عبدالدايم أول امرأة تحمل حقيبة الثقافة بمصر مطالبة بتجاوز مشكلات النخبة وطموحاتها الضيقة لتبدو الرؤية الشاملة لتأثير القوة الناعمة.العرب شريف الشافعي [نُشر في 2018/01/18، العدد: 10873، ص(13)]أول وزيرة للثقافة تنتقل من حرير الأوبرا إلى أشواك الملفات من الدار إلى النار، مثل مصري معروف، يقال عند الانتقال الفجائي من الهناء إلى الشقاء، هكذا حال إيناس عبدالدايم، بانتقالها من دار الأوبرا كعازفة ورئيسة إلى نيران وزارة الثقافة كمسؤولة ومحاربة في مواجهات خشنة من العيار الثقيل. ابنة الكونسرفتوار أول امرأة تقود سفينة الثقافة الرسمية، التي تأتي الرياح منذ فترة طويلة بما لا يشتهيه ملاحوها وركابها، بل لعلها السفينة التي تتكالب عليها الصخور، وتنخر عظامها الأعطاب، وينظر إليها البحر ذاته نظرة إشفاق وذهول. في قاعات الأوبرا الحالمة، يمكن لعازفة الفلوت الأولى بمصر أن تزلزل بأنغامها الساحرة أركان السكون، وتوقظ كل ما هو إنساني حي، وإن أصابه الخلل أو اعتراه الصدأ، هي مهمة ثقيلة تتمثل في انتقال رئيسة الأوبرا بغتة إلى معركة كبرى ضد التكلّس والجمود، بتوليها حقيبة الثقافة في الرابع عشر من يناير الجاري. جبهات خطرة خريجة المدرسة العليا للموسيقى بفرنسا، ملكة “الصولو”، صارت اليوم مطالبة بالإنجاز والإبداع في عزف وزاري لا يمكن أن يكون منفردًا هذه المرة، وأمام جمهور متحمّس ضخم، يتألف من أكثر من 96 مليونًا من المصريين، يحملون أوجاع الثقافة في صدورهم أكثر مما تظن النخبة ويتوهم المثقفون. أكثر من جبهة تواجهها عبدالدايم في مشوارها الذي بدأ مبكرًا،عندما اصطدمت بجبهة التعصّب الديني، وقت ترشيحها لوزارة الثقافة من قبل. لكن ضغوط التيارات المتشددة، والأصوليات المؤسساتية والمجتمعية المتحالفة معها، حالت دون توليها المنصب في أكثر من تشكيل وزاري سابق. لا تزال تيارات التطرّف الديني وجماعات العنف والإرهاب تشكل إحدى الجبهات المحورية في معركة الثقافة ووزيرتها، على نطاق مجتمعي أوسع وأشد ضراوة، خصوصًا أن الوزير السابق حلمي النمنم لم يؤد المطلوب منه في هذا الإطار، بما جعل القيادة السياسية تنتقد أداءه علنًا أكثر من مرة في ملف تجديد الخطاب الديني. على الرغم من اعتقاد البعض أن اختيارها لحقيبة الثقافة يعكس تمكينًا للمرأة في المجتمع وإنصافًا لها ومضيًّا على خطى دول منحت المرأة حظوظها في اعتلاء هرم الثقافة مثل المغرب وتونس والبحرين وسوريا، فإن جبهة أخرى ساخنة سوف تُحارَب فيها الوزيرة، وتحارِب، شاءت أم أبت، هي جبهة الذكورية المجتمعية في مواجهة كل طموح نسوي. أما أمّ المعارك، فهي الجبهة الأخطر التي على إيناس أن تتنبه لها مبكرًا، وهي ببساطة جبهة الثقافة ذاتها كحالة، والمثقفين أنفسهم كأفراد وشراذم وجماعات، والشعب كله كمعنيّ بتلك الثقافة، ومحروم من تجلياتها في الوقت نفسه. وهنا التحدّي الأعظم، والرهان الأصعب في مشوار الوزيرة القادمة من حقل الإبداع الفني، ذلك الحقل الذي لم يقدم وزيرًا محسوبًا على تربته الأصيلة بشكل صريح ومباشر منذ عهد التشكيلي فاروق حسني. لذلك فإن عبدالدايم يجب أن تكون معها عصا سحرية هذه المرة كي تترك بصمتها في جبهة الثقافة، فالمعنى الوحيد لنجاح الطبيبة المعالجة هنا هو “إحياء جثة القتيل”.أداء وزارة الثقافة، خلال الفترة الماضية، لم يحظ بالرضا السياسي، ولعل هذا يفسر لماذا لم تندرج وزارة الثقافة في عهد الوزير السابق حلمي النمنم في منظومة التكليفات والتوجيهات الرئاسية التي تولاها رسميّا المجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف، بهدف صياغة استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، وإعلاء الخطاب الوسطي المعتدل في مواجهة الخطاب المتشدد القوة الناعمة بمصر، صارت تسمى من باب التهكم والسخرية “القوة النائمة”، فالتأثير الثقافي الحقيقي يكاد يكون غائبًا، ومواضع الخلل متشعبة ومتجذّرة، وهناك من يرى أن تلك القوة “منوّمة بالقوة”، أي أن قوى أخرى أكثر شراسة، ذات مرجعيات دينية أو سياسية، هي التي تحكم الأمور، وتدير حركة البلاد، وتفرض التهميش على الثقافة بمؤسساتها الرسمية المغلولة، وعناصرها الشعبية المعزولة. على فنانة “آلة النفخ” أن يتسع صدرها لهواء العالم كله، لتتجاوز رؤيتها حدود مشكلات النخبة ومطالب المثقفين الضيقة، خاصة الإجرائية والإدارية التي استهلكت موظفي الوزارة، ووزراءها السابقين، على مدار عقود من الجدل والتذمر وإعلاء شأن الفردي، بما جعل الوزارة بيتًا للمصالح والمنافع والتربيطات. الاستراتيجية الشاملة هنا ضرورة، من أجل تفعيل القوة الناعمة شعبيًّا على أرض الواقع، والتأثير في حركة الشارع، واستعادة الدور المصري المفقود عربيّا وإقليميّا، وإرضاء طموحات الجماهير التي تعاني من جفاف المنابع الثقافية ونضوب روافد التغذية الفكرية والجمالية. بؤس الثقافة حال الثقافة هو مربض الفرس، وليس حال المثقفين أو النخبويين، فالوزيرة في موضع يراد به النهوض بالمصريين جميعًا، لا إضاعة الوقت والجهد في شؤون المثقفين وشكاواهم وصراعاتهم الهشة والمرضية أحيانا. أداء وزارة الثقافة، خلال الفترة الماضية، لم يحظ أيضًا بالرضا السياسي، مثلما أنه لم يلق القبول الشعبي، ولعل ذلك يفسر لماذا لم تندرج وزارة الثقافة في عهد الوزير السابق حلمي النمنم في منظومة التكليفات والتوجيهات الرئاسية التي تولاها رسميّا المجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف، بهدف صياغة استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، وإعلاء الخطاب الوسطي المعتدل في مواجهة الخطاب المتشدد. الموقف السياسي هنا اتفق مع الموقف الشعبي في النظر إلى وزارة الثقافة خلال الفترة السابقة ككيان فارغ أجوف يعاني مشكلات تتعلق برؤيته وطبيعة أدائه، ويكاد يقتصر نشاطه على الأمور الشكلية والجوانب الكرنفالية وإقامة المهرجانات، دون التشعب في مسارات تشكيل الوعي وخلخلة الثوابت وتحريك المفاهيم الجامدة. على وزيرة الثقافة الجديدة أن تطرح البديل الدينامي، الذي يزيل تلك الصورة السلبية حول الفكر الإداري والأداء التخطيطي لوزارة الثقافة، حيث الانحصار في ماضٍ ولّى من جهة، وحاضر دعائي من جهة أخرى، الأمر الذي يعكس مشكلات وإخفاقات متعددة في التواصل الحقيقي مع منتجي الثقافة ومستهلكيها على السواء. وربما عليها أن تعي الدرس جيدًا، وتدرك أنه في مثل هذه الأجواء من الركود والاجترار والافتقار إلى الخيال، سوف يستمر تراجع القوة الناعمة المصرية، وتهتز صورتها ومقدرتها على التأثير الداخلي والخارجي، في الوقت الذي تتقدّم فيه قوى ثقافية أخرى، عربية وإقليمية، ساحبة البساط من مركزية مصرية مهووسة بالتغني بالأمجاد، وصناعة عناوين عريضة لبرامج عمل فضفاضة، حصيلتها في معظم الأحوال فقاعات من الكلام.الفعل التنويري يتوجب عليه أن يكون مرادفًا للحيوية والإيجابية من خلال التفاعل داخل منظومة العمل الثقافي لدى الإداريين والمثقفين والجمهور. وهو ما افتقر إليه عهد الوزير النمنم ثقافة بلا فلسفة ولا رؤية فرق كبير بين أن تكون العملية الثقافية ذاتها أو الفعل التنويري نفسه مرادفًا للحيوية والإيجابية والعزيمة والأمل، من خلال طبيعة الممارسة وروح التفاعل الخلاقة التي تجمع منظومة العمل الثقافي من إداريين ومثقفين وجمهور، وبين ما كانت تفعله وزارة الثقافة من تحويل ما يجب أن تتسم به من ممارسات إلى رؤوس موضوعات وعناوين يتم الحشد لها وليس تفعيلها، من قبيل تجديد الخطاب، وروح أكتوبر، وثقافة النصر. الثقافة الإيجابية فلسفة ورؤية وتحرّك محسوب على أرض الواقع، وكذلك إرادة الأمل، بما تعنيه من عمل دؤوب وقدرة على تمحيص التراث وتجاوز الزائل ومواكبة الراهن ببناء جديد، لكن الحل الأسهل دائمًا يكون بالبحث عن متنفس للدعاية وفضاء للتهليل، ولو كان خارجيّا أو وهميّا، في إطار منظومة شعارية فجة، وبلاغة خطابية تضاف إلى بلاغات سابقة موروثة راكدة. بالإضافة إلى الشعارية وتحويل المناسبات والأحداث المختلفة إلى موائد صغيرة للكلام الكبير، فإن طبيعة تلك الفعاليات الوزارية كانت تتسم بالمحدودية والإغراق في النمطية، بما يفقد القوة الناعمة تأثيرها، بل حضورها، وسط مقاطعة جماهيرية تامة لأنشطة عديدة تحوّلت إلى كليشيهات خلال الفترة الماضية. سيدة المهمات المستحيلة يفترض أن تكون على استعداد لمصافحة المستحيل ذاته، لأن ما تفتقده الثقافة بمصر ليس مجرّد طبيعة وجودها على الأرض، بل ذلك الوجود ذاته المتشكك فيه أصلًا. ملف تجديد الخطاب الديني الخطاب الديني، لم يكترث الفكر الوزاري بسبل تجديده من خلال لقاءات وحوارات وممارسات تفاعلية على أرض الواقع، بقدر ما عني بتنظيم ندوات ومحاضرات أحادية حول ثقافة التسامح ونبذ العنف وحقوق الآخر، وما إلى ذلك من كلمات جاءت بعيدة عن المضمون الحقيقي لمهمة الثقافة. بنظرة خاطفة إلى الوراء، سنجد أن الوزيرة الجديدة، إذا رغبت في التطوير واستحداث الجديد، عليها أن تبتعد عن منهج الفعاليات التي نظمتها الوزارة حول التجديد الديني سابقا، لأنها جاءت نخبوية، جافة، ضعيفة التأثير، يكاد يقاطعها الجمهور، فضلًا عن إهمالها أهم محور كان من الممكن أن يؤدي لنجاحها، وهو عدم الاستغراق في الحوار الجدلي مع المتشددين، والوصول إلى آليات تجديد حقيقية. جاءت غالبية فعاليات تجديد الخطاب الديني، كمحاضرات توعوية تفتقد التأثير، وتسرف في رفض الآخر المتعصّب وانتقاده دون التواصل معه أو محاولة تغييره: احتفالية “فرج فودة.. حضور رغم الغياب” بالمجلس الأعلى للثقافة، وندوة “الفلسفة الصوفية عند محيي الدين بن عربي” بالمركز القومي للترجمة، ومؤتمر “فلسفة التأويل: آفاقها واتجاهاتها” بجامعة القاهرة، وغيرها.غالبية فعاليات تجديد الخطاب الديني، تأتي على شكل محاضرات توعوية تفتقد التأثير، وتسرف في رفض الآخر المتعصب وانتقاده دون التواصل معه أو محاولة تغييره هذه التوجّهات والآليات المتكلّسة التي اتبعتها وزارة الثقافة على مدى طويل تمثّل القاعدة العريضة بين جملة سياساتها، أما الاستثناءات فهي بعض الإجراءات والمبادرات المتطورة، التي تهدف بشكل فعلي تطبيقي إلى التواصل مع المجتمع، من قبيل: المكتبات المتنقلة، أكشاك الثقافة، الدوري الثقافي، قطار الشباب، وغيرها. ومنها يصبح التوجّه الصحيح لوزيرة الثقافة الجديدة هو السعي إلى تطوير تلك الآليات وتنميتها واستحداث مبادرات أخرى على غرارها، في إطار الرؤية الاستراتيجية الشاملة، إذ يبقى الأمل معقودًا على التوجهات التي تأخذ في حسبانها أن منظومة العمل الثقافي تفاعلية بين أطراف عدة، وليست منظومة إطلاق مقولات فوقية يجري ترديدها على نحو احتفالي في الفراغ. قبل تولّيها الوزارة، وفي أثناء رئاستها للأوبرا، لم تطرح إيناس عبدالدايم تصورًا متماسكًا يخص وزارة الثقافة ككل، أو الحالة الثقافية العامة، ربما لأنها لم تكن في موقع يعطيها الحق في ذلك، واقتصرت طموحاتها في ما يخص المشروعات الكبرى على مجال تخصّصها، بما يسمح بعودة الموسيقى والفنون إلى المدارس والجامعات، وإنشاء أكاديميات متخصصة لتدريس الفنون بشكل علمي متعمّق، وما نحو ذلك. ولكن في أول أيام عملها كوزيرة، عقدت عبدالدايم مؤتمرًا صحافيّا عاجلًا، لم يكن كافيًا بطبيعة الحال لرسم بورتريه لرؤيتها ومخططاتها وآلياتها الإدارية والتنفيذية، لكنها كشفت خلاله إدراكها للتحديات التي تمر بها، هي ووزارتها في آن واحد، مشيرة مرة أخرى إلى أن وضعيتها كامرأة تمثّل أحد أوجه هذه التحديات، وأنها ستعمل بكل جهدها لإثبات مقدرة المرأة على خوض التحدّي وإثبات تفوّقها. جاءت التصريحات الأولى أقرب إلى العمومية والتحدث من داخل الصندوق، فرحلة الاكتشاف والتخطيط والتغيير لم تبدأ بعد، كونها لم تخطُ عتبة مكتبها، ومما ألمحت إليه ضمن قائمة أولوياتها: النهوض بقصور الثقافة في محافظات مصر المختلفة لكي تعمل بكل طاقاتها، والتأكيد على العمل التكاملي بين قطاعات الوزارة دون إهمال ولا إقصاء، وإنهاء أسلوب الجزر المنعزلة، واستكمال جهود الإعداد لافتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب في 27 يناير الجاري وحتى 10 فبراير القادم. لم تخُض في حقول جديدة، مفضلة الاكتفاء بالحديث الدبلوماسي عن تضافر الجهود بين الثقافة والأوقاف والأزهر لحصار الإرهاب ومواجهة قوى الشر التي تسعى إلى النيل من مصر وأهلها، بحد تعبيرها، مستخدمة كليشيه الخطاب السياسي في هذا الصدد. ولم تكد تطرح عبارة “التجديد”، حتى عرّجت على “الموروث الثقافي المصري”، مشيرة إلى إيمانها بأهمية تمريره إلى دول العالم المختلفة في إطار الخصوصية وإثبات الهوية وتبادل الحضارات مع الآخرين. على الرغم من تزايد الانتقادات لوزارة الثقافة، كونها صارت قاصرة على إقامة المهرجانات، فإن عبدالدايم أشارت إلى أنها تتمنّى تطوير وزيادة عدد المؤتمرات الداخلية والخارجية التي تشارك فيها وزارة الثقافة، وتوقفت كثيرًا عند الكتاب المطبوع، والهيئة العامة للكتاب، التي وصفتها بأنها خط الدفاع الأول عن تاريخ مصر وثقافتها. في عبارة وجيزة، وضعت يدها على أحد مقومات النهوض بالثقافة، بحديثها عن استراتيجية جديدة للثقافة المجتمعية المتكاملة، تأخذ في الاعتبار الوصول إلى جميع أبناء الوطن في سائر الأنحاء، لكنها عادت لتقول إنها تفضّل المضيّ في الطريق الذي كان مشى فيه الوزير السابق حلمي النمنم، وإنها “ستكمل مشواره في كل المجالات الثقافية”. وهكذا، لا تكاد تغادر الأفكار والكلمات الصندوق، حتى تعود إلى داخله. فمن يدري لعل الوزيرة الجديدة تقدّم الحلول لكل تلك الملفات الفوضوية ذات الضجيج العالي المحيطة بها بعد عهد من نعيم الموسيقى الراقية.
مشاركة :