عصير خلف القضبان

  • 1/19/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في أواخر التسعينيات من القرن الماضي كان من سوء حظ أحد العراقيين أن نفسه هفّته إلى «لفة كص» (ساندويتش شاورما) من أشهر المطاعم في حي الأعظمية وهو «قاسم أبو الكص». وهذا ليس إعلاناً. وكانت هذه «اللفة» الغذائية «دبل» أي تعادل رغيفين مما يسمى باللهجة العراقية «الصمون» وهو نوع من المعجنات التي تنتج في أفران حجرية. وابتلع الأخ المقسوم واصطف إلى جانب عربة تبيع العصائر مكتوب عليها «هذا من فضل ربي» و«القناعة كنز لا يفنى» فاشترى قدحاً من «شربت الزبيب».. بالهنا والشفا. لكن أمانة بغداد كان لها رأي آخر لا علاقة له بالهنا والشفا. فشنت «ميليشيات» الأمانة هجوماً صاعقاً على عربة العصائر وكراسي المطعم الذي تعود أن يضعها على الرصيف المجاور له. وهو ما تعتبره الأمانة اعتداءً غاشماً على الممتلكات العامة وحقوق الإنسان. وأكمل المغاوير القصة باعتقال الأخ الذي هفّت نفسه إلى تلك «اللفة» وذاك «الشربت» بينما هرب بقية الجياع والعطشى في أزقة الأعظمية. تم نقل الضحية إلى معتقل أمانة بغداد، فقد كان لبعض الوزارات والمؤسسات والأجهزة معتقلاتها وقوانينها الخارجة عن القانون. وظل الرجل خلف القضبان يتلمض طوال أسبوع كامل بطعم الشاورما إلى أن نشرتُ مقالاً في صحيفة كنتُ أكتب فيها تحت عنوان: «الرجل الذي شرب الشربت» فضحت فيه بدعة السجون غير النظامية التي يساق إليها الأبرياء مع أدوات «الجريمة» من مقاعد وصحون وأقداح وسلال زبالة في انتظار حكم العدالة. وقرأ المقال من بيده القرار فأصدر أمراً بغلق تلك المعتقلات غير النظامية وإطلاق سراح «عتاة المجرمين» من عشاق الشاورما وعصير الزبيب، وعاد «شارب الشربت» إلى أهله سالماً غانماً.. وعاشوا عيشة سعيدة. ذكرني بذلك الحادث مقال نشره وزير النقل العراقي الحالي كاظم فنجان الحمامي قبل أن يصبح وزيراً تحت عنوان: «أبو الشربت وزيراً للنامليت». و«النامليت» كما قيل لنا كلمة باللهجة العراقية محورة من «اللمونادة» أي عصير الليمون وبقية الحمضيات. وكان الصديق الحمامي لسنوات عديدة مرشداً بحرياً ماهراً وخبيراً فصيحاً في شؤون الخليج العربي وخور عبد الله وأسماك الزبيدي والصبور وحلاوة نهر خوز والموانئ وشط العرب والمدّ والجزر قبل أن يفتحها الله عليه ويصبح وزيراً للنقل النهري والبحري والجوي والبري. ومقال الحمامي مستوحى من أسعار النفط التي انخفضت منذ أكثر من ثلاث سنوات من 120 دولاراً للبرميل الواحد إلى دون الثلاثين دولاراً. فقال إنه وجد من واجبه في عمله في الموانئ وعرض البحر والمنصات النفطية العملاقة أن يقوم بمسوحات عامة عن أسعار السوائل كلها ومقارنتها بالسعر الذي تدحرج إليه برميل النفط. وتوصل إلى أن سعر برميل «كوكا كولا» وصل إلى 159 دولاراً وهو أعلى بكثير من سعر برميل النفط الخام المستخرج من حقل الرميلة العراقي. وتشمل هذه المقارنة السعرية مشروبات «فانتا وبيبسي وسفن آب وسبرايت» وكلها مشروبات سبق أن باركها دونالد ترامب قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة. ويزودنا الأخ وزير النقل بمعلومة طريفة وهي أن برميل النفط يعادل في وزنه 500 علبة معدنية من علب هذه المشروبات. والنتيجة أن سعر النفط صار، حتى مع ارتفاعه إلى خمسين دولاراً أو مائة دولار، أرخص من مواد استهلاكية كثيرة مثل الحليب والمياه المعدنية والشامبو وصلصة (معجون) الطماطم إضافة إلى المياه الغازية. لكن الأهم أن سعر البرميل الافتراضي من قهوة «ستاربكس» يباع بنحو 954 دولاراً، والبرميل الواحد من عطور «شانيل» بنحو مليون و600 ألف دولار وبرميل الآيس كريم بنحو 1600 دولار وبرميل قاتل الحشرات 945 دولاراً والشامبو 1431 دولاراً وزيت الذرة 397 دولاراً وبرميل مشروب فيمتو 318 دولاراً! إلا أننا لا نعرف حتى الآن قيمة براميل المتفجرات التي دمرت المدن السورية. ونصل إلى «الصدمة والترويع» باقتراح وزير النقل إلغاء وزارة النفط واستحداث «وزارة للشربت» تتخصص بإنتاج وتصدير العصائر وتُحقق للعراق تريليونات الدولارات بدلاً من المليارات التي أهدرها نوري المالكي وعصابات الفساد ولصوص الميليشيات، ولا بأس في تبني اقتراح تأسيس «الشركة العامة لناقلات النامليت» بدلاً من شركة ناقلات النفط، وتشريع قانون النامليت والمشروبات الغازية ومرق الفاصوليا وشوربة الدجاج بالكريمة. وفي الوقت الذي أشكر فيه السيد وزير النقل على سخريته اللاذعة ومن بينها إعلانه بعد توليه الوزارة أن أول مطار في العالم أنشئ قبل خمسة آلاف عام في مدينة الناصرية جنوبي العراق، ليس هذا فقط، وإنما نزداد علماً وفخراً لأن أول محطة فضاء في العالم تأسست في الناصرية أيضاً قبل ثلاثة آلاف عام وكان اسمها مشتقاً من الناصرية «ناصا» فسرقته الولايات المتحدة الأمريكية وأطلقت الاسم نفسه على وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» وبذلك فإن المحطتين تكتبان بنفس الحروف الإنكليزية NASA . لقد أنجبت الناصرية حشداً من الفنانين الكبار أبرزهم حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وياس خضر وحسين نعمة وحميد منصور وطالب القره غولي.. والخطأ والسهو مرجوع للطرفين. وكان للمطربة القديمة صديقة الملاية أغنية شهيرة عن هذه المحافظة: «للناصرية.. للناصرية.. باثنين إيديه.. تعطش وأشربك ماي.. باثنين إيديه». ويعرف العراقيون أن أشهر بائع عصير في بغداد منذ عام 1900م اسمه «الحاج زبالة». وحين دعوت زميلاً مصرياً قبل الاحتلال لشرب عصير الزبيب منه استغرب الاسم، لكنه بعد شربه العصير قال: ده لزيز أوي.. بس اسمو حاجة تقرف!

مشاركة :