غالباً ما يقاطع الجزائريون المعالج النفسي لعقدة راسخة تخلط بينه وبين اختصاصي الأمراض العقلية، فيفضلون أساليب قديمة. وبينما يصنع النساء الاستثناء في ثقتهن الخضوع لجلسات «المرشد»، بدأت دورات علاج الأزواج تدخل «على استحياء» نمط حياتهم. ويعتقد كثر في الجزائر أن اللجوء إلى الطبيب النفسي في الحـــالات العادية «ضرب من الجنون»، على رغم أن كمّ الصدمات التي تلقاها المجتمع خلال العقود الثلاث الأخيرة يجعل أفراده مجبرين على طرق أبواب العيادات المتخصصة في هذا النوع من العلاج، إذ تشير إحصاءات وزارة الصحة إلى أن حوالى 50 في المئة من الجزائريين يعانون أمراضاً نفسية تتـــفاوت خـــطورتها، خصوصاً بعد مرور البلاد بسنوات العشرية الدموية، تلتها كارثتا الفيضانات والزلازل اللتان مسّتا الجزائر العاصمة وضواحيها، ومع ذلك تبقى أقلية قليلة تخضع لدورات علاج. وفضلاً عن ذلك، تقدّر مصادر حكومية عدد «المجانين» بـ1.5 مليون نسمة، لعبت تلك الظروف دوراً في تكاثرهم، وجعلت وجودهم في الفضاء العام أمراً مألوفاً. مقاطعة مُعلنة وتعزى خلفيات المقاطعة المعلنة إلى خلط موجود بين الطبيب النفسي وطبيب الأمراض العقلية وجهل في التفريق بينهما، فالأخير يعالج الأمراض الذهانية والعقلية الخطيرة كالجنون وازدواجية الشخصية فيصف عادة الأدوية والعقاقير لعلاج مرضاه وهو أمر غائب عند الاختصاصيين النفسانيين الذين يستعملون تقنيات علاجية ذهنية ونفسية على غرار الاسترخاء والتركيز، التصوير الذهني، التأمل، التنفّس، والتخلّص من عقدة الخجل. ويلفت الاختصاصي في العلاج النفسي رضا معلوم إلى أن كثراً يعتبرون زيارة الأطباء في مجاله بمثابة «تابو»، علماً أن الأمر مسألة طبيعية لا تحتاج إلى طبع زيارتهم بـ «السري للغاية» خوفاً من نظرة الآخرين لهم. وعلى العكس، فإن تقبّل الحساسيات الاجتماعية لدورهم يساعد على تجاوز المحن، خصوصاً على صعيد معالجة الأطفال، إذ دعا معلوم في تصريح لـ «الحياة» إلى ضرورة مشاركة أطراف المجتمع في عملية العلاج النفسي، وألا يقتصر الأمر على الأهل فقط. أما بالنسبة إلى فئة الراشدين مثلاً، فغالبية الحالات الواردة إلى عيادة معلوم تتعلّق بمشكلات ناتجة عن صراعات شخصية سواء في العمل أو مع الزوج أو الابن، أو حالات الأرق والقلق والاكتئاب الحاد، حيث يدرس الاختصاصي النفسي الحالة ليصل بصاحبها إلى بر الأمان. وفي شأن طرق التشخيص، يسأل معلوم «المريض» عن كيفية نومه أو استيقاظه أو أساليب التعامل مع الآباء والأبناء وغيرها من السلوكيات التي تُظهر مدى سوء والعلاج مدته، ويمكن أن يستمر العلاج من 6 أشهر إلى 3 سنوات. وتُظهر زيارة عينة من العيادات المختصة في الجزائر أن إقبال العنصر النسوي كثيف جداً مقارنة مع الرجال، وبنسبة تفوق 70 في المئة. إذ تستعين المرأة بمرشد نفسي لشعور ينتابها بتراجع أهميتها لدى زوجها أو لدى أبنائها عندما يكبرون، وهو ما يعزوه مختصون إلى التغيرات الفيزيولوجية، التي تمر بها المرأة، في فترات من عمرها، لا سيما في حالة عدم تقبلها الوضع المستجد، فتدخل في دوامة من الإحباط وسرعان ما تظهر عليها معاناة جسدية ونفسية. ومع تقدير الأرقام الأخيرة تصدّر الجزائريات لائحة العوانس في العالم العربي، فان فئة واسعة منهن يقصدن معالجين نفسانيين نتيجة فقداهن الأمان بعدما فاتهن قطار الزواج، فيتعرّضن لحالة مفاجئة تظهر في شكل شعور بالاختناق وتسارع ضربات القلب أو هبوط مفاجئ في تردداته، مع برودة وتنمّل في الأطراف، وتعرّق غزير وضعف في اليدين وشعور بفقدان التوازن. لكن أبرز صور تقبّل ثقافة العلاج تأكيد الاختصاصي محمد بنكوزة تزايد أعداد الأزواج المقبلين على جلسات علاج ثنائية، في ظل خوف من الذهاب إلى الطبيب فردياً، ما يجعل التوجّه كعائلة أمراً جديراً بالتشجيع خصوصاً مع اقتناع بعضهم أن البوح أمام آخرين بتعرّض «العش الزوجية» لهزات ومشكلات نفسية قد تكون في أي أسرة، لا يستدعي طبيباً. بينما الاستهانة بالمشكلات الصغيرة في بداياتها قد يتطوّر إلى حالات انفصال، كما أن وظيفة الاختصاصي «تدريب» الأزواج على أبجديات الاستماع إلى الشريك. وعموماً فقد أصبح أول مكان يتوجّه إليه الجزائريون عندما يحسون بتوتر أو مشكلة تعيق صفاء حياتهم النفسية، الراقي وحتى المشعوذ الذي يحتل مكانة متقدّمة في مجتمعهم. «الشخص الموهوب» وضع خطير كهذا عبّر عنه الخبير الاجتماعي مصطفى نصال لـ «الحياة» ، موضحاً أنه في ظل غياب الثقة بالطبيب النفساني وارتكاز الثقافة أساساً إلى المفاهيم القديمة المنصبة على الشخص الموهوب أو «الطالب» كما يسمى في الخيال الشعبي، متناسين دور الإرشاد النفسي في بناء برمجة نفسية عقلية سليمة لئلا يصاب الفرد بأمراض مستعصية، ويحقق نجاحات في حياته اليومية. وأضاف نصال أن «عقيدة» الذهاب إلى الطبيب النفساني يجب أن توضع في الحسبان، لان «ثقافة العلاج النفسي مصدرها من الحضارة الإسلامية. كما يمكن العلاج حتى من طريق الموسيقى، وحين نتحدّث عن المجتمع الجزائري بقيمه وثقافته وما تحمله في الجانب الروحي، نتساءل هل نحن في علاقاتنا الأسرية والمجتمعية نتكلّم مع الأم وفي تربية أبنائنا وفق التعاليم الإسلامية؟». ودعا نصال المجتمع الجزائري إلى معالجة الحالات النفسية قبل تحوّلها إلى مرض في المراحل الأولى من الحياة، لا سيما عند الإشراف على تربية الأبناء وطرق التعامل معهم سواء ما تعلّق بأساليب تقبّل الذات أو التخلّص من إدمان الألعاب الإلكترونية في سياق تعرّض أطفال كثر أخيراً إلى ضغط نفسي رهيب أحدثته لعبة «الحوت الأزرق»، التي تنتهي بدعوة من يزاولها إلى الانتحار.
مشاركة :