ديوان “كي لا تظهر أصابعي من حذائي المفتوح” للشاعر العراقي علي ذرب، وهو أول منشورات ميليشيا الثقافة حديثة التأسيس، وفيه نقرأ كيف تتلاشى “أنا” ذرب الشعريّة في مكونات عالم ينهار وتختلط فيه أشلاء الأخوة مع معادن الدبابات، لنرى الشاعر في سعي دائم للخلاص حتى من وجوده العبثي بين قذيفة وجدار. عبء إضافي عرفت الساحة الثقافية العربيّة حركة ميليشيا الثقافة بوصفها شكلا جديدا للجماعات الأدبيّة والفنية، يتداخل في نشاطها الشعر مع فن الأداء والأشكال المسرحيّة المختلفة، لكن مؤخرا علمنا أنها أنشأت دار نشر خاصة بها تحمل نفس الاسم. عن هذا القرار والانتقال إلى سوق النشر وتعقيداتها يقول ذرب إنه لا يوجد أي تحول نحو سوق النشر لأنه كشاعر بالأساس يقف ضد منطق السوق، وما حصل فقط محاولة لإيجاد حل وإنقاذ لكتابه، وربما سيستمر بهذه الطريقة لأن الرهان عنده على الشعر أولا وأخيرا. ويضيف ذرب أن عمليّة النشر اليوم أصبحت عبئا إضافيا على الشاعر والكاتب عموما، وبالنتيجة يريد الشخص لكتابه أن يصل إلى القراء وأن يكون ذا مستوى طباعة جيد، وهذا الاهتمام لا توفره سوى دور النشر الرصينة، لكن النشر مكلف جدا. ويعقّب “بالنسبة إليّ ليست لدي القدرة على تحمل تكاليف النشر وربما لا يعرف الكثيرون ما معنى أن يكون لديك كتاب منجز ويبقى لفترة ليست بقليلة كجثة في الكمبيوتر الخاص بك، لذا بعد بقاء كتابي لشهور مركونا قررت إيجاد حل لإنقاذه فأنشأت منشورات ميليشيا الثقافة، وهي ببساطة منشورات خاصة بي وبالأصدقاء القريبين مني في الميليشيا إذا كانت لديهم الرغبة بالنشر فيها، ومن منطلق اصنع كتابك بيدك عملت تصميما بسيطا للكتاب ونشرته في مواقع التحميل ومواقع التواصل الاجتماعي، وقريبا تصدر نسخ ورقية منه بعد التعامل مع مطبعة محلية بتكلفة مناسبة لي”.عملية النشر اليوم أصبحت عبئا إضافيا على الشاعر والكاتب عموما، وبالنتيجة يريد الشخص لكتابه أن يصل إلى القراء القتل والسخرية يحضر القتل بمعناه الواسع في نصوص ذرب وكأنه نوع من الخلاص، في سبيل أن يبقى الشاعر وحيدا في عوالم الخراب قاطعا كل سبيل وصله مع ما حوله، يعقب ذرب عن ذلك بقوله إنه يكتب لكي ينتقم، والانتقام هنا بمعناه الشعري ولأن علي ذرب الإنسان في مراحله الأخيرة، فالفرصة تكمن في علي ذرب الشاعر ويضيف “بين تشييع الإنسان وزيادة حضور الشاعر حاولت المساس بكل شيء يحيط بي، محاولا قطع جذور الأشياء الذاتية والبعيدة وتعميم مفهوم القتل الموضوعي لإبادة الذاكرة وتكرار الظرف اليومي والفشل، إذ لم يعد يهمُني وجودي كإنسان، فأنا متشابه ومشوّه، وما أسعى إليه هو وجود خالص في الشاعر، ربما هو موت أيضا ولكنني أقبله، وفي النهاية باطن هذه المحاولة أو القتل هو العبث بكل القيم”. يغلب ضمير الأنا على قصائد الديوان، لكن ما نلاحظه هو أن هذه الأنا متحولة ولا تمتلك مرجعية الشاعر الفيزيائيّة، هي أنا مائعة تتسلل في هيولى الكائنات وتتشكل معها، يعقب ذرب بالقول “الأنا في الديوان هي منفذ لا يوجد فيه أي عائق أمام أي شيء، فكل ما أراه يرفد عوالمي في الكتابة”. ويضيف “لم أجد أي ضير في كل مرة أشرع فيها من أناي ما دمت مسبقا قد حددت نقطة النهاية، فكل كتابة ذاتية تائهة هي فاسدة ومن غير الطبيعي من وجهة نظري كشاعر أن تجعل أناك حاجزا بينك وبين ما يحيط بك، وبالنتيجة لا يسعني سوى الشك بوعيك وبشكل شخصي في هذا الكتاب قررت الالتصاق أكثر بجوهر الواقع والعمل على إبراز مشاهداتي له وتحويلها إلى كتابة”. تحضر في الديوان مرجعيات لنصوص سابقة لعلي ذرب، وكأن ما يكتبه وليد عالم واحد يتحرك ضمن نصوصه، ويعقب هنا بقوله إن كتابته بالأساس تعتمد على الواقع وأحداثه، ولا توجد قطيعة معه بل على العكس هناك تطور لمفهوم الجريمة وتضخّم للأزمات. ويقول ضيفنا “لم ينقطع قتل الإنسان ولم تتوقف الحرب، لذا لا يمكنني التوقف عن الإشارة والاتهام لكل من يهدد الحياة، مهمتي هي قول الحقيقة ولم أشعر أني قلت الكثير عنها، أما الاستمرارية فأجدها ضرورية لتبلغ عوالمي مرحلة التكامل، فالقطيعة أحيانا تأتي من الإحساس بالفراغ وعدم الدراية، وكذلك من عدم القدرة على إدارة الأفكار”. نتلمس في الديوان سخرية مريرة بل وكوميديا شديدة السوداوية وكأن القصيدة خشبة مسرحيّة للكوميديا تتصارع فيها تمثيلات العالم وحقائقه، وحين نسأل ذرب عن هذا، يجيبنا بأن أصل السخرية لديه وفي الديوان نابعة من تساؤلاتنا عن السبب الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة من العالم، واكتشافنا فيما بعد أن لا شيء ساعد في وصولنا، وإنما نحن متواجدون فيه بطريقة غبيّة لا نعرفها، وبقاؤنا فيه أيضا يعود لسبب نجهله. ويضيف “جاءت سخريتي بملامح البكاء لأنني في كل مرة أعود فيها إلى ذاكرتي، إلى تاريخي الصغير عموما، إلى أحداثي اليومية، لم تثر عندي شيئا غير السخرية، فالكوميديا هنا هي شكل من أشكال الانتقام والإطاحة بكل شيء، لأنني أعتقد أنني في ورطة اسمها العالم، ولا شك إذا كان ما قدمته هو تعريف آخر للقبح، فهو أيضا إثارة الانتباه نحو الجمال”.
مشاركة :