شاعر فرنسي يكتب قصائد بألسنة العرب والأكراد والأفارقة لم يعد الشاعر أسير مخيلته وأهوائه، إذ اختار البعض للشعر أن يكون ممارسة حيّة، صيغة الرّائي التي تتراجع أمام صيغة الباحث، فالشاعر يزور الجغرافيات ويقابل البشر الذين يكتب لهم وعنهم، باحثاً عن قصصهم وأصواتهم التي ترددها الريح، هو يدون ملاحم وأناشيد نسيتها الألسن، يصطاد ملامح ذاكرة منسيّة ليدوّنها لمن سيأتي لاحقاً، لتغدو القصائد أشبه بنصوص للذاكرة، تدوينا وركضا في صحارى النسيان.العرب عمار المأمون [نُشر في 2017/07/03، العدد: 10680، ص(14)]الكلمات قديمة كمعاناة البشر يحضر الفرنسي لوران غودي على الساحة الثقافية الفرنسيّة كشاعر وكاتب مسرح وروائي، إذ حصل عام 2004 على جائزة الغونكور، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، هذا العام صدر لغودي كتاب “عن الدم والضوء” عن دار أكت سود، وفيه ثماني قصائد طويلة بعضها نشر سابقاً وبعضها يرى النور للمرة الأولى، القصائد كتبت أثناء رحلات الشاعر المتعددة إلى أفريقيا والشرق الأوسط، وفيها يتحدث عن المهمشين والضحايا والمهددين بالموت والنسيان، هو يكتب أناشيد لهزيمة المُحتل إلى جانب تهويدات لأولئك المنسيين في ظل الحروب والموت العشوائي والمحكومين منذ ولادتهم بالفقدان.شاعر فرنسي يريد أن يكتب شعراً ينتمي إلى كل مكان، مجتازا كل الحدود ليتلمس معاناة البشر وصدى آلامهم حكايات شعريّة يقول غودي إنه يريد أن يكتب شعراً عن الإنسان، شعراً يحدق في أعين البشر بحثاً عن الألم المنسي فيها، شعراً يتلمس المدن من تدمر إلى بيروت ومن بغداد إلى أقاصي أفريقيا، هو شعر عن العالم الآن، عن المآسي والألم الذي نعيشه، فكلمات الشعراء هي الوحيدة القادرة على أن تكون واضحة وملغزة في الوقت ذاته، هي قصائد ولدت من تجربة الشاعر الذي يحدّق في العالم، يكتب صدى صرخات لم تعد تُسمع الآن. يكتب غودي في القصيدة الأولى بعنوان خورشاك عن صرخة الإنسان بوجه النسيان، فـ”خورشاك/ ليست صلاة للإله/هي للإنسان/ فقط”، القصيدة كتبت إثر رحلة قام بها الشاعر إلى كردستان العراق وهايتي ومخيم كالية، ليزور فيها الذين تركوا أرضهم لاجئين، هو يدعو للغضب، أن أفسحوا مجالاً له، أصرخوا بأعلى أصواتكم “خورشاك”، هي نداء بوجه البشر لا للآلهة الذين صمّت آذانهم، هي قصيدة عن زمن منسيّ وتاريخ يخبّئ وراءه المعاناة والقهر، فخورشاك دعوة للثورة، كذلك استحضار للألم إذ يقول في مطلع القصيدة “الكلمات قديمة كمعاناة البشر/ هناك حيوات مضت بأكملها دون أن يعرف أصحابها استراحةً، أو ضوءاً”. يتابع غودي في القصيدة الثانية “أغنية الجولات السبع” رحلة العذابات، إذ نقرأ فيها سردا قصصياً عن رحلة العبيد من أفريقيا نحو العالم الأبيض، إذ يبدأ بالحديث عن شجرة النسيان، تلك التي تحفظ ذاكرة من وضعوا في القوارب واقتيدوا بعيدا، في كل جولة يروي لنا الشاعر مراحل النسيان، إذ يغيب عن الأفريقي اسمه ثم دينه ثم لغته، ليبقى معلقاً في الهواء، راسماً لنا بعدها رحلة القوارب وعذاباتها، الموت والأمراض والانتحار، هي فضاءات الموت العائمة في البحر.الشرق الأوسط يحضر في القصائد القصيدة تحكي أيضاً عن غرور الرجل الأبيض، صاحب السوط الذي يلهب ظهور من يظنهم خاضعين له، لينتقد الشاعر أثناء ذلك مصطلحات الاستعمار، كالوعي والتحضر واللقاحات، هي قصيدة ملحمية عن وحشية الإنسان الأبيض. لنراه بعدها في “لم لا للفرح” يتحدث بلسان أم تخاطب ابنتها، لا يهم اسمها في البداية، نحن نقرأ أماً ترى الماضي بأعين بناتها، هي الأرض السمراء، إذ تقول مخاطبةً ابنتها “أنت سولانج، ابنة المدينة/ تمشين ببطء/ كل مكان هو منزلك/ ملكة أنت في هذه الشوارع التي لا يوسخك غبارها./ أنت سولانج/ وكل شيء لكِ إن لم تمتلكي شيئا/ إذاً لم لا للفرح/ فخر أن تكوني أنثى/ ابنةُ لأمّهات كُثر/ لا يضبطها الوقت/ حرّة/ أخت للعشب الذي يميل مع الريح برقة”. جغرافيات الموت يحضر الشرق الأوسط في القصائد والويلات التي شهدها، إذ يختار الشاعر أن يكتب عن المأساة الكردية وشعب هجّر عبر التاريخ؛ ففي قصيدة “وحدها الريح” يبدأ الشاعر برحلة الكرد نحو الشمال بعيداً عن احتمالات الموت والتشريد، لتحضر بعدها الريح التي فيها سلواهم والتي تردد أسماءهم. وفي قصيدة “إذا يوما ما ولدت” يتحدث الشاعر عما شهده الكرد، عن المجازر في العراق وعن التهجير الممنهج والملاحقة في الجبال، وعن ذاكرة من المآسي يتم تناقلها من جيل إلى جيل، إذ يقول “إذا ولدنا يوماً ما/ فسنولد بصمت/ وأول ما سنذكره يولد طفلٌ جديد لنا هو موتانا/ لن نحدث أطفالنا عن عالم الأحياء/ بل عن هؤلاء الذين جاؤوا بنا للعالم/ هؤلاء الذين همسوا لنا بأغنيات الجبال قبل أن نتعلم حتى الكلام”. يدعونا غودي إلى تحسس العالم جسدياً، أن نختبره ونسمع صوته، أن ننصت علّنا نلتقط صدى قديماً لصرخات الألم التي يحويها، فغودي يستحضر ما نشهده الآن من مآس، انفجارات وموت مجاني يحصد ضحاياه من بغداد إلى باريس، وفي حوار معه يقول “هذه القصائد ولدت إثر الرحلات التي قمت بها، سواء إلى كردستان العراق أو إلى غابة كالية، وإثر زيارتي لهذه الأماكن كنت ممتلئا بالمشاعر، والغضب أبرزها، وهذا ما دفعني إلى الكتابة، حين كنت هناك لم أشعر بأني أرغب في كتابة رواية، بل أردت أن أقول ما أحسست به، إذ أردت أن أترك مساحة للغضب كي يخرج من داخلي، والقصيدة هي الشكل الأنسب للتعبير عن هذه الحالة”.
مشاركة :