الانتخابات المقبلة في العراق لن تكون سوى محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على إجماع لم يجر إلا بسبب إفلاس الطرفين الكردي والسني بعد أن تسببا في إلحاق الأذى بالمناطق التي يمثلانها.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2018/01/25، العدد: 10880، ص(8)] في العراق وافق مجلس النواب بالإجماع على إجراء الانتخابات التشريعية في وقتها المحدد سلفا. ترى أين ذهبت الأصوات التي كانت تطالب بتأجيل تلك الانتخابات؟ بين المطالبة بالتأجيل والموافقة بالإجماع مرت أيـام قليلة، لـم يحدث فيها شيء ما يمكن اعتباره سببا لتغيير الموقف. أما أن تكون تفاهمات وتسويات قد جرت في الخفاء، فإن ذلك يمكن التكهن به في بلد كالعراق، سياسيوه لا مشروع خدميا يحكم حركتهم بقدر ما تتحكم بهم مصالحهم الشخصية. وإذا ما عرفنا أن النواب السنة والأكراد المطالبين بتأجيل موعد الانتخابات هم اليوم في أضعف أحوالهم، فإنه يمكننا أن نفهم لمَ استدركوا الوضع قبل أن يتم الاستغناء عن خدمـاتهم، وهو ما يمكن أن يتم بيسر بعد أن صار المزاج الشيعي يميل إلى تنفيذ مشروع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، في حكومة أغلبية “سياسية” وهو تعبير مجازي عن حكم الطائفة الغالبة. وبالرغم من كون سنة وأكراد الحكم لا يشكلون عائقا دون قيام تلك الحكومة، فإن وجودهم التزييني في المفاصل غير الضرورية للدولة، يشكل نوعا من المحاولة للحفاظ على الصيغة التي فرضتها الولايات المتحدة شكلا لنظام الحكم “الوطني” في العراق في مرحلة الاحتلال وما بعده. دولة المكونات التي أنشأتها سلطة الاحتلال ونص عليها الدستور لا يمكن أن تكون واقعا إلا من خلال نظام سياسي يستند إلى مبدأ المحاصصة. حينها فقط تجد الطائفية الطريق أمامها سالكة من السياسة إلى المجتمع. ولقد صار واضحا أن التنسيق الأميركي – الإيراني في العراق إنما يستند على تلك الآلية التي لا تسمح بقيام دولة المواطنة، وهو ما يؤدي إلى بقاء العراق أسيرا لنزاع طائفي، ليس على مبدأ “مَن يحكم مَن”، بل على الأسس التي يتم من خلالها توزيع الثروات بين الأحزاب التي تتسابق في ما بينها من أجل الكسب غير المشروع. وهكذا فإن الفساد الإداري والمالي الذي صار عنوانا لذلك “الحكم الوطني” إنما هو نتاج بنية لا يمكن المساس بها حفاظا على “العملية السياسية” التي أجمعت الأطراف المتناحرة كلها على التمسّك بها، كونها قارب النجاة الذي يبقي الفاسدين في منأى عن المساءلة القانونية. فانهيار تلك العملية، كما صار متداولا، يعني انهيار دولة العراق. بمعنى أن العراق بصيغته الأميركية باق ما دامت ماكنة الفساد مستمرة في العمل. تلك معادلة تشترك السلطات الثلاث في دعمها متكافلة. لذلك جاء قرار المحكمة الاتحادية منسجما مع إرادة الأحزاب الشيعية التي تملك الأغلبية في مجلس النواب إضافة إلى تفردها في إدارة الدولة. وإذا كان النواب السنة قد فقدوا القاعدة الشعبية التي يستندون إليها بعد تخاذلهم في الدفاع عمَن انتخبهم، فإن النواب الأكراد باتوا في عزلة بعد أن هُزم مشروع أحزابهم في الانفصال عن العراق. هذه المعطيات هي التي دفعت التحالف الوطني (مجموعة الأحـزاب الشيعية الحاكمة) إلى الضغط في اتجاه إجراء الانتخابات في موعدها، بالرغم من تأكدها من أن المناطق ذات الأغلبيتين (السنية والكردية) لم تعد بيئة صالحة للقيام بنشاط من ذلك النوع. وهو نشاط يتطلب الكثير من الاستقرار. إن تخلي دعاة تأجيل الانتخابات عن مطلبهم بالطريقة التي حدث من خلالها يعني أن أولئك النواب قد استسلموا بطريقة لا تقبل الشك لإملاءات الأحزاب الشيعية خشية أن يتم استبعادهم من العملية السياسية. الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى انقطاع مواردهم التي هي ثمن مشاركتهم في تسويق العملية السياسية. وكما أرى فإن الجولة التي كسبها التحالف الوطني هذه المرة ستكون بداية لتحولات خطيرة سيشهدها العراق على مستوى مشكلات الحكم. فما لم يكن أحد يتوقعه أن يتم استضعاف الطرف الكردي مثلما تم استضعاف الطرف السني من قبل. وهي مناسبة للإعلان عن إلغاء نظام المحاصصة في سياق النظرية التي يعرضها التحالف الوطني، والتي ستؤدي بالضرورة إلى أن يكون الحكم اللاطائفي من حصة ممثلي مكون واحد، يلحق بهم ممثلو المكونات الأخرى. لذلك فإن الانتخابات المقبلة في العراق لن تكون سوى محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على إجماع لم يجر إلا بسبب إفلاس الطرفين الكردي والسني بعد أن تسببا في إلحاق الأذى بالمناطق التي يمثلانها. كاتب عراقيفاروق يوسف
مشاركة :