تنظيم داعش لم يكن فصلا عراقيا، بالرغم من أن ظهوره قد شكل حلا في سياق السياسات الطائفية التي اتبعتها الفئات الحاكمة في بغداد، بغض النظر عن هويتها المذهبية. العربفاروق يوسف [نُشرفي2016/11/08، العدد: 10449، ص(9)] إن اختفى تنظيم داعش ذات يوم، هل سيكلف أحد نفسه بالبحث عن أسرار ذلك التنظيم، أصوله وبنيته وتمويله، والجهات التي أسسته ورعته ودعمته وأمدته بأسباب الحياة والأهداف التي كانت تسعى إليها من خلاله، أم أنه صفحة ستطوى مثل باقي الصفحات السوداء التي يتألف منها سجلنا في عصرنا الراهن؟ ضحايا ظهور التنظيم وشريعته واستبداده وصمت العالم عنه والسماح بتسليحه وتمويله بالبشر والمال سيبقون صامتين؛ فهم إما موتى، وإما مشردون منسيون حتى من قبل ذوي القربى وأولياء أمورهم ورجال دينهم، وما يُسمى بالمجتمع الدولي الذي ساهم في تشردهم. غالبا ما تستعير منظمات الإغاثة أصوات المشردين وصورهم لتعلن عن وجودها. المشردون كائنات مؤجلة على المستوى الإنساني. يغادرون الذاكرة الجمعية حين تختفي صورهم من على الملصقات ومقدمات النشرات الإخبارية. هم ما تبقى وليس فيهم ما يشير إلى جوهر قضية ما. سيُقال إن الأميركيين أخطأوا حين احتلوا العراق، غير أن خطأهم صار أكبر حين سحبوا قواتهم من ذلك البلد، فسمحوا لإيران بميليشياتها وللتنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش أن تعيث فسادا في البلاد وتحول سادته إلى نازحين. ربما سيكون من الصعب النظر إلى مسألة النازحين في تشردهم ما لم تتم مراجعة أسباب تشردهم، وهي أسباب متشعبة تشعب الأطراف التي لعبت دورا كبيرا في صنعها وتحويلها إلى واقع حال. وسيكون ساذجا مَن يفترض أن تنظيم داعش، وهو تنظيم فئوي طارئ، هو الطرف الوحيد الذي صنع كل تلك المعجزات. لم يسبق أن قامت عصابة لا تملك سوى سيارات دفع رباعي حديثة بالتسبب في تشريد الملايين من البشر في أكثر مراحل التاريخ رثاثة وركاكة وانحطاطا. حرب أهلية مثل التي تشهدها سوريا يمكنها أن تفعل ذلك وإن في حدود أضيق مما شهده الواقع، بعد أن صارت سوريا ملعبا للقوى الكبرى ولكل أتباعها ونفاياتها. ولكن ما حدث في العراق يفوق كل معطى واقعي؛ فالملايين من البشر الذين شردهم التنظيم كان بإمكانهم نظريا أن يهلكوه وينهوا أسطورته من غير أن يطلقوا رصاصة واحدة. بدلا من مسيرات النزوح كان بإمكان مسيرة احتجاج واحدة أن تزرع الهلع في قلوب مرتزقة التنظيم الذين لا يملكون أي سبب وجيه للموت على أرض الرافدين. لمَ إذن فضلت تلك الملايين النزوح على المواجهة، دفاعا عن أرضها وعرضها ومالها؟ أعتقد أنه سؤال يحرج جهات كثيرة، ليس من بينها النازحون أنفسهم. وهو ما يجعل من داعش سؤالا من غير إجابة. وكما أرى فإن الأمر لن يناقش في المستقبل القريب على هذا النحو؛ فالتنظيم الإرهابي الذي ظهر في لحظته التاريخية المناسبة قام بأداء دور، تعجز عن القيام به القوى الدولية والإقليمية المعنية بتدمير العراق، مشروع دولة وكيان اجتماعي موحد وخزنة ثروات. تستهوي بعض المحللين عبارة “عراق ما بعد داعش” وهي عبارة مرنة تنطوي على نقيضين؛ الأول يشير إلى داعش باعتباره رمزا لمرحلة من التاريخ العراقي المعاصر، والثاني يفك ارتباط مرحلة ما بعد داعش بالعراق التاريخي. وكما أرى فإن داعش لم يكن فصلا عراقيا، بالرغم من أن ظهوره قد شكل حلا في سياق السياسات الطائفية التي اتبعتها الفئات الحاكمة في بغداد، بغض النظر عن هويتها المذهبية. لقد أنهى ظهور داعش الأصوات المحتجة على محاولات تغليب الطائفة على الوطن. صار الاستقطاب الطائفي بسبب الظلم المقصود خيارا وحيدا. فـ”داعش” الذي ركز الكثيرون على نزعته الطائفية لم يكن وحشا سنيا، بدليل أن زعيمه البغدادي في خطابه الأخير لم يهدد سوى تركيا والسعودية، وهما دولتان سنيتا المذهب. وكما يُخيل إلي فإن داعش الذي هو في طريقه إلى أن يختفي، على الأقل من الأراضي العراقية، سيأخذ معه ما تبقى من العراق التاريخي، وهو ليس بالكثير، بالرغم من أنه كان يمثل الخيط الأخير الذي يمكن للعراقيين حين يتمسكون به أن يسترجعوا عراقهم. ستتذكر الأجيال القادمة أن لعنة هي التي أنهت كيانهم التاريخي الذي يعود إلى ما قبل سبعة آلاف سنة. يومها ستظهر حقيقة ذلك التنظيم الشرير. كاتب عراقي فاروق يوسف :: مقالات أخرى لـ فاروق يوسف العراقيون ولعنة داعش, 2016/11/08 درس القمرين, 2016/11/07 فؤاد كامل الرسام الحركي الذي استعادته مصر, 2016/11/06 ليس هناك نصف خيانة, 2016/11/05 ولد الشيخ ودي ميستورا الوسيطان الضائعان, 2016/11/04 أرشيف الكاتب
مشاركة :