إن التظاهر في العاصمة كان ولا يزال بمثابة خط التماس بين المعارضة والنظام، والأكثر نفوذا وهيمنة هو من يحكم سيطرته على العاصمة، ما يجعل سياسات النظام تتشدد بطريقة متطرفة في حصارها للفعاليات الاحتجاجية التي تقام لأن الاحتجاجات والأحداث المتصاعدة في إيران بمثابة ثورة حقيقية، إثر الغيظ المكتوم للشعب الإيراني من نظام الملالي الموجود منذ 4 عقود. والاحتجاجات الايرانية الحالية نتيجة معاناة الشعب من الفقر والجوع والبطالة والمرض والتضخم، حتى إن أكثر من نصف الشعب الإيراني يعيش تحت خط الفقر، على عكس تظاهرات 2009 التي كانت نتيجة انتخابات رئاسية، وهذا النظام لم يهدم إنسانية الشعب الإيراني فقط، إنما أظهر مغزى ولاية الفقيه على حقيقته، والشعب الإيراني جاء إلى الساحة ليقول رأيه في هذا النظام، ويريد التخلص منه، ومن الصورة التي يصدرها عن إيران في الخارج، ودعمه للإرهاب في سوريا والعراق ولبنان، فالفصائل الإيرانية المتنافسة تتقافز مثل القطط الغاضبة التي يهاجم بعضها بعضًا. ودون أن يدرك ذلك، أو ربما من تحت سطح الأحداث الجارية، ربما تسبب الرئيس ترامب في إشعال صراع موجع على السلطة في طهران، والمشهد السياسي الإيراني تطور من التظاهرات الاقتصادية إلى السياسية، والنظام الإيراني يدفع فاتورة استنزاف خزينته في دعم التنظيمات الإرهابية بالخارج، ما أدى لزيادة معدلات البطالة والتضخم، ورغم ذلك ما زال يصر على إعطاء أولوية للخارج.إن النظام الإيراني ما زال حذرًا في تعامله مع الاحتجاجات حتى لا يكرر سيناريو عام 2009، عندما قمع المظاهرات واستنكر العالم ذلك، وهو ما بدا في مشهد مقتل المناضلة «ندا سلطان» في الشارع، التي تصدرت صورتها وسائل الإعلام العالمية، أنها تؤيد ادعاءات النظام الإيراني بأن التحركات الشعبية الحالية ممولة ومدفوعة من أمريكا وقوى خارجية، وكانت تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن الاحتجاجات بمثابة «هدية» للنظام الإيراني، الذى ادعى أن مقتل بعض المحتجين في الغرب الإيراني كان على يد عملاء أمريكان. الداخل الإيراني معقد، ومن السذاجة التسرع في طرح التحليلات عما يدور في أذهان الشباب والمحتجين، وقد أشارت محللة إيرانية، كيسو نيا، إلى أن الكثيرين من الذين يحاولون فهم ما يحدث في إيران يركزون على طهران، بينما التطورات خارج العاصمة، وخصوصًا في المدن والقرى التي تعاني من الأزمة الاقتصادية والتهميش وهي التي تقود هذه الحركة، واتساع رقعة المظاهرات التي تدخل اليوم يومها التاسع، لتشمل طهران ومشهد وكرمنشاه والأحواز، يدل على أن موجة الاحتجاجات سيكون لها صدى واسع وتأثير على البلاد والمنطقة خلال العام المقبل.هناك عامل آخر مختلف عما حدث في عام 2009، وهو عدم وجود مجموعة كبيرة من المراسلين والصحافيين الأجانب في طهران، فمن الوكالات الدولية، لا يوجد مكتب إلا لوكالة الصحافة الفرنسية، كما أن غالبية الصحف الأجنبية قررت سحب مراسليها خشية من اعتقالات وادعاءات بأنهم يعملون لجهات استخباراتية، مثلما حدث مع صحافي «واشنطن بوست» جيسون رضائيان، الذي بقى مسجونًا 18 شهرًا حتى بداية عام 2016. اليوم، نعتمد بشكل أكبر على الإعلام الاجتماعي للحصول على معلومات من إيران، أحيانًا تجعله من الصعب التأكد من مصداقيتها. نجاح المتظاهرين في إيران هو فاتحة خير لتغيير الوضع في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وسيكون بإمكان هذه الشعوب التفكير في مستقبلها بحرية، ومن دون ضغط أو هيمنة العمائم السوداء، ولذلك فإني أتوقع أن تكون المعركة شرسة جدًا، فالظلاميون يدركون أنهم سيفقدون حكمهم، وامتيازاتهم، وتحكمهم بهذه الرقعة الواسعة وسيفقدون كذلك ثرواتهم الخرافية، إذن ستكون المعركة بين شعب أعزل حي وبين سلطة غاشمة تملك أحد أقوى جيوش العالم، فهل سيلعب الجيش الورقة الأخيرة وينحاز إلى الشعب وسيلعب حينئذ أنزه لعبة لعبها جيش في بلده؟ إيران، بهذا المعنى، لن تستطيع أن تفصل بين موقفها الذي تقوم بإعداده للرد على التصعيد الأمريكي والقرار المحتمل من الكونجرس وبين هذا التصعيد ضد الحرس الثوري واستهدافه، هذا التصعيد سيكون حتمًا محددًا أساسيًا في بلورة وصياغة الخيارات والمواقف الإيرانية، لكن هذه المهمة ستكون أيضًا معنية بأن تأخذ في اعتبارها ثلاثة عناصر أخرى ستكون، حتمًا، حاكمة للخيارات الإيرانية المحتملة.أول هذه العناصر يتعلق بحدود الموقف والخيارات المرجح اتخاذها من جانب الكونجرس الأمريكي ضمن خيار إلغاء الاتفاق أو تعديله، ففي ظل وجود انقسام داخل الإدارة الأمريكية، حيث يؤيد كل من وزيري الخارجية ريكس تيلرسون والدفاع جيمس ماتيس الإبقاء على الاتفاق مع العمل على التضييق على إيران بخصوص سياستها الإقليمية وصواريخها الباليستية، وكذلك الانقسام داخل الكونجرس بين أقلية ديمقراطية مؤيدة وموافقة على الاتفاق وأغلبية جمهورية منقسمة بين خيار إلغاء الاتفاق بفرض عقوبات جديدة على إيران، وخيار صياغة تشريع آخر مواز، أو استراتيجية مواجهة شاملة مع إيران دون إلغاء الاتفاق. الأمريكيون أيضًا مهتمون بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، وزير الدفاع جيمس ماتيس أعلن، عقب خطاب ترامب، أنه يضع ضمن أولوياته التشاور مع الحلفاء من الشرق الأوسط وخارجها لفهم وجهات نظرهم بشكل أفضل حول سوء سلوك إيران في مجالات "غير نووية" منها الدعم الإيراني للجماعات المتطرفة وبرامج الصواريخ الباليستية، وإذا كان بعض، أو كل حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، يؤيد التصعيد ضد إيران في الملف النووي والملفات الأخرى، فإن الحلفاء الأوروبيين حريصون على إقناع واشنطن بالإبقاء على الملف النووي، والاستعداد في الوقت ذاته لتفهم المطالب الأمريكية بخصوص القضايا الأخرى سواء كانت سياسة إيران الإقليمية أو الصواريخ الباليستية. وقد بدا أن كلا من ألمانيا وبريطانيا حرصتا على توجيه رسالة جديدة لإيران مفادها ضرورة استيعاب المخاوف التي تبديها القوى الدولية تجاه التداعيات التي يفرضها دورها المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط وبرنامجها الصاروخي، حيث أكدت كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسة الوزراء البريطاني تيريزا ماي، في 15 أكتوبر 2017، ضرورة تصدي المجتمع الدولي لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والتعامل مع برنامجها للصواريخ الباليستية. نظريًا، حافظت إيران على حقها في امتلاك برنامجها النووي، وبذلك تستطيع أن تستمر في الإعلان للرأي العام الإيراني بأن منشآتها النووية لن تغلق، وأن تخصيب اليورانيوم سيستمر، وأن العقوبات الاقتصادية سوف تُرفع، ومن ثم، تظهر إيران بمظهر المنتصر أمام الشعب الإيراني ، وستبشرهم بنمو اقتصادي سيحسن من مستوى معيشتهم. لكن من الناحية العملية، فإن بنود الاتفاق فرضت قيودًا كثيرة على البرنامج النووي الإيراني لسنوات كثيرة، وعليه، فإن ادعاءات إسرائيل حول أن إيران ستحظى بتطبيع كامل لبرنامجها النووي مع العالم خلال عشر سنوات من الاتفاق، وأنها ستتمكن من تنفيذ كل ما تخطط له هو ادعاء غير صحيح. وهكذا، يمكن القول في النهاية إن الدول الأوروبية تقترب من الموقف الإيراني فيما يتعلق بالاتفاق النووي، ومن الموقف الأمريكي فيما يتصل بالدور الإقليمي الإيراني وبرنامج الصواريخ الباليستية، لكن هذه السياسة المتوازنة لن تنجح، على الأرجح، في الوصول إلى حلول وسط بين الطرفين، في ظل إصرار كليهما على التمسك بموقفه وعدم إبداء أية مرونة قد تساعد في تحييد آثار هذه الخلافات على استمرار العمل بالاتفاق خلال المرحلة القادمة.
مشاركة :