على مر العصور، لم تكن الخيانة حالة استثنائية، كما أنها لم تكن حدثاً عابراً، فلا توجد فترة زمنية ذكرها التاريخ إلا وكان بها بطل يُجمع عليه أهل زمانه، وخائن جبان أسهم في ضياع قومه وشعبه، وفي أحسن الأحوال أخَّر حصولهم على الحرية والتقدم. وقد كانت السياسة المتبعة في العهد الإغريقي، تنص على وجوب اتباع القوي، ولا ضير في خيانة الوطن وتسليمه، خاصةً إذا كان الجيش الغازي يتفوق -ولو شكلياً- في قوته، أو لا ريب في هذه الخيانة وتسليم الوطن للجيش الغازي إذا كان أقل قوة وتجهيزاً، ولا ريب في هذه الخيانة إذا كانت ستحفظ التجارة والممتلكات، وبلا ريب حفظ النفس البشرية. ولم تقتصر خيانة الأوطان على الإغريق؛ بل انتقلت في كل العصور، حتى خان العربي أبو رغال دينه وقاد جيش أبرهة الأشرم من أجل هدم أقدس مكان آمن به؛ وذلك حفاظاً على حياته وخوفاً من بطش أبرهة به. لا لوم على أبي رغال، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على رأس جيشه، وفي مواجهة جيش الغازي يتعرض للخيانة، وينسحب زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول من معركة أُحد بثلث جيش المسلمين، وكله أمل أن يخسر المسلمون الحرب، ويُقتل رسول الله، وعندها تكون له الطريق مهيَّأة ومعدَّة لتسلُّم مقاليد الحكم بالمدينة المنورة. وفي سبيل البحث عن مصلحة خاصة، سواء الحصول على مكاسب مادية أو سلطوية، أو لتجنب خطر والحفاظ على النفس من الهلاك، وتجنُّب صراع، حتى لو كان على حساب الوطن وحياة الآخرين، وجد كل من الطامحين الطامعين والمنهزمين الجبناء الخانعين المستسلمين ضالتهم في الخيانة. وفي عصرنا الحديث، لا يمكن لوم بعض الحكومات العربية على خيانتها شعوبها، لا لوم عليها على خيانتها معتقداتها الدينية، لا لوم عليها على خيانتها عروبتها، كيف لا وهذه الحكومات وليدة خيانة عربية؟ فمنذ تأسيسها بعد انهيار الخلافة العثمانية، وهي صنيع المحتل الغازي، تربت ونمت وترعرعت لتحقيق مصالح المحتل، فقد اصبح بقاؤها مرهوناً بمقدار المنفعة التي تقدمها لأصحاب الفضل في بقائها، كما أن ضمان استمرارها مرهون برضى أصحاب الفضل. انظر إلى حال شعوب هذه الدول، تجدها شعوباً مقهورة مقموعة أمنياً، يتم التعامل مع أبناء البلد على أساس أنهم رعاة، سادة وعبيد، مهما كان نظام الحكم ملكياً، أميرياً، رئاسياً، جمهورياً، برلمانياً، مهما اختلفت الأسماء يبقى النظام واحداً، والحكم في يد شخص مهيمن، يكون بمثابة المالك لدولة، ومن تبقى مجرد موظفين لتحقيق أحلامه، وإن صحت التسمية عبيد في زريبة والده. فلم العجب عندما تجد حاكماً يخون وطنه وشعبه، يفرض الضرائب التي ترهق المواطنين، وإذا دفع راتباً للمواطن كان الراتب لا يكفي نصف ما يحتاج، ويطلب التقشف باستمرار والصبر على سوء الحال، ثم لا يتردد في دفع المليارات لشراء الأسلحة لقمع الشعوب وبناء السجون، وفي محاولة لصبره على سوء الأحوال، لا ريب إذا بنى قصراً أو اثنين، أو اشترى يختاً أو طائرتين، وصرف بعض المليارات من أجل الترفيه عن نفسه، أو جزية توهب لترامب وابنته! بل أين العجب عندما تجد بعض حكام العرب يتنازلون عن القدس لصالح الغازي المحتل الإسرائيلي! أليس في هذا التنازل حقن للدماء؟! أليس في هذا التنازل غلق لأبواب صراع مستمر منذ مائة عام وربما تزيد؟! أليس في هذا التنازل حفاظ على أرواح الفلسطينيين الذين يُقتلون ليل نهار؟! أليس في هذا التنازل مجال للتعاون للقضاء على الإرهاب الإسلامي الراديكالي؟! أليس في هذا التنازل حفاظ على الأمن والسلم القومي لهذه الدول؟! كيف لا ولهم من فلسطين عبرة؟ فعندما نجحت في كسر نموذج الدولة العربية القمعية، فأسقطت هذه الدولة في صندوق الانتخابات في عام 2006م، بعثت الأمل في نفوس المواطنين العرب بإمكانية التغيير وعدم استحالته، وعندما تصادمت إرادة الصندوق مع مفهوم الدولة العميقة، حسب لغزة حسم خيارها. كانت غزة شرارة التغيير وشعلة أنارت طريق الثورات العربية وإسقاط العديد من الحكومات القمعية. وفي صراع الدولة العميقة مع الشعوب الثائرة، لا بد من ترويض القدوة وإفشال مشروعه، فلا بد أن تفشل "حماس" في غزة. إن الخيانة العربية للقدس مطلب سلطوي للبقاء، ليس لإرضاء الأسياد هذه المرة؛ بل من أجل قمع الشعوب وإخماد الثورات، لم يعد هناك أمان على الكرسي، وسط حركات تحرر وطني تتقدم وتنجح، تحقق ما عجزت عنه الدول، ونجاح "حماس" في الصمود أكثر من عشر سنوات تحت الحصار الإسرائيلي العربي المشترك، ونجاح حماس في التصدي للجيش الذي لا يُقهر، وقهر الجيوش العربية مجتمعةً- أربك حسابات هذه الدول. لم يكن التسريب الأخير الذي تحدث به ضابط المخابرات الحربية المصرية مع بعض الإعلاميين والفنانين، سوى إشارة واضحة إلى مقدار الخوف من نجاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في العودة إلى قيادة الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وتوجيه الصراع مع المحتل الإسرائيلي، مما قد يعيد روح الثورات العربية من جديد، ولم تكن عبارة الضابط المصري عن أن الموضوع أمن قومي، سوى الحقيقة المثلى. ما تقوم به بعض الحكومات العربية من خيانة لفلسطين والقدس مبرر بلا شك، فإذا خان عبد الله بن أُبي بن سلول رسولَ الله بحثاً عن السلطة، فكيف نلوم أمثاله من الطامعين في الحكم، فنحن في زمن أصبحت به الخيانة وجهة نظر يبرَّر لها؛ بل ويُنظر إليها بأنها تستقطب المناصرين. وكم من خائن طامح إلى سلطة ومنصب أو باحث عن أمن وأمان، إلا شاء وخطط، وكاد ودبر، وأطلق الوعود بلا تعقُّل، فلو عقل لما غفل عن أن مشيئة الله فوق مشيئته، وكيد الله أعظم من كيده، وتدبير الله خيراً من تدبيره، ووعد الله أصدق من وعده، فإذا شاء السيسي أو غيره فإن مشيئة الله أصدق، وإذا وعد بن سلمان فإن وعد الله نافذ، وإذا كاد بن زايد فإن كيد الله لا يُرَدُّ. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :