د. أحمد قنديل * يبدو أن العالم أصبح على أعتاب حقبة جديدة من الصراعات الدولية بين القوى الرئيسية المؤثرة في تفاعلاته المهمة. ففي 19 يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس استراتيجية الدفاع الوطني الجديدة لعام 2018، وهي الأولى من نوعها لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ توليه السلطة في يناير 2017. أكد وزير الدفاع الأمريكي ماتيس أن بلاده تعتزم الاستثمار في مجالات الدفاع النووي، والفضائي، والصاروخي، مشيراً إلى أن تفوق الولايات المتحدة على روسيا والصين عسكرياً في الجو والأرض وفي البحر والفضاء الإلكتروني «بدأ يتلاشى».. وهو الأمر الذي أصبح يتطلب مزيداً من التمويل، من أجل تأسيس قاعدة ابتكار للأمن القومي وتطوير «قوة فتاكة أكثر»، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تحديث «قوة الثلاثي النووي الأمريكي» أي سلاح الطيران الاستراتيجي والصواريخ البالستية العابرة للقارات والغواصات الحاملة للأسلحة النووية بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية العسكرية من خلال التركيز على برامج تطوير الدفاع الصاروخي وقدرات الردع والاستثمار في مجالات الفضاء والمجال السيبراني والذكاء الاصطناعي وجميع الأنظمة الحيوية التي تحتاج إليها القوات المسلحة الأمريكية.ورداً على ذلك، وصف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف استراتيجية الدفاع القومي الأمريكية الجديدة بأنها «استراتيجية مواجهة»، رافضاً الاتهامات الأمريكية بأن روسيا والصين تقوضان الجهود المبذولة لتعزيز الأمن الدولي. وقال لافروف «إنه من المؤسف أن تسعى الولايات المتحدة لإثبات زعامتها العالمية من خلال استراتيجيات مواجهة كهذه بدلاً من إجراء حوار عادي، وبدلاً من استخدام أسس القانون الدولي». واعتبر وزير الخارجية الروسي أن الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة تعكس سعي المؤسسة العسكرية في واشنطن للحصول على «موارد مالية إضافية»، وذلك في إشارة واضحة إلى التوقعات السائدة حاليا بشأن عزم الرئيس ترامب على طلب تخصيص 716 مليار دولار للإنفاق الدفاعي في ميزانية 2019، التي سيتم الكشف عنها الشهر المقبل ما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بمشروع ميزانية 2018 (549 مليار دولار، حسب السقف المعلن من جانب الكونجرس)، والتي لم يتم إقرارها بعد من جانب الكونجرس حتى كتابة هذه السطور. أما رد الفعل الصيني فقد تمثل في وصف الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة بأنها تعكس «عقلية الحرب الباردة»، وتبالغ في وصف تنافس القوى الكبرى، وبالتالي فهي «خاطئة في جوهرها»، حسبما أشارت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الصينية. كما دعت السفارة الصينية، في واشنطن، الولايات المتحدة إلى ترك ما وصفتها ب«عقلية الحرب الباردة وعقلية المباراة الصفرية» لأنها لن تقود إلا إلى الصراع والمواجهة فحسب. الانتقادات الروسية والصينية للاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة تعتبر طبيعية ومنطقية للغاية، فهذه الاستراتيجية تهدف، في الواقع، إلى استعادة الميزة العسكرية التنافسية الأمريكية لردع موسكو وبكين عن تحدي الولايات المتحدة وحلفائها، أو السعي إلى قلب النظام الدولي الذي خدم المصالح الأمريكية والغربية، بشكل جيد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنها تأتي أيضا منسجمة مع استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض، والتي أعلنها الرئيس ترامب في 18 ديسمبر/كانون الأول 2017 والتي اعتبرت أن روسيا والصين أكبر خصوم واشنطن في العالم. وفي الحقيقة، تعد الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الجديدة تحولا مهما في التفكير العسكري الأمريكي. فبعد عقدين من التركيز الأمريكي على مجابهة التطرف والإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، قرر صانعا القرار العسكري والاستراتيجي في واشنطن الانتقال من أولوية محاربة الإرهاب إلى أولوية التنافس مع الدول الكبرى، لأن الواقع الحالي أصبح يفرض على الولايات المتحدة الالتفات إلى الصراع التقليدي الأكبر، وتحديث قواتها في مواجهة التقدم التكنولوجي السريع، والموقف العدواني المتزايد تجاه روسيا والصين. فمن ناحية، ينظر عدد كبير من الدوائر الأمنية والاستراتيجية الأمريكية إلى موسكو باعتبارها مصدر تهديد عسكري في ضوء الخطر الذي تُمثِّله سياسة موسكو لردع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسياساتها الهادفة لتغيير البنية السياسية والاقتصادية في أوروبا والشرق الأوسط لصالحها (على سبيل المثال الموقف الروسي في سوريا). كما يعبر هؤلاء أيضا عن القلق الأمريكي المتزايد من تحديث روسيا ترسانتها النووية واستخدامها للحرب الذكية للتأثير على العمليات الديمقراطية في كل من جورجيا والقرم وشرق أوكرانيا. وبالتزامن مع ذلك، يؤكد العديد من الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين أيضاً أن الصعود العسكري والاقتصادي للصين من شأنه مزاحمة واشنطن، إن آجلا أو عاجلا، في قيادة النظام الدولي، مشيرين إلى استمرار بكين في عمليات التحديث العسكري وعمليات توسيع النفوذ والنشاط الاقتصادي لإجبار الدول المجاورة على إعادة ترتيب منطقة المحيط الهادئ بما يتوافق مع مصالحها، فضلاً على مساعيها المستمرة لتحقيق تطلعاتها في بحر الصين الجنوبي. ومن ناحية أخرى، قطعت روسيا والصين أيضاً شوطا كبيرا في مجال تطوير التكنولوجيا العسكرية. حيث قامت الدولتان بتطوير الآلاف من منظومات الصواريخ عالية الدقة والطويلة المدى، التي يمكن أن تصل إلى القواعد الجوية الأمريكية، وبالتالي تهديد التفوق الجوي الأمريكي. ومع التقدم المستمر في الحرب السيبرانية والإلكترونية، أصبح من الممكن للدولتين أيضا تهديد النظم الفضائية الأمريكية، التي تتحكم في أنظمة الأسلحة النووية، وبالتالي زيادة إمكانية تعطيل القيادة والسيطرة التي تتحكم في «دماغ» العمليات العسكرية الحديثة المعقدة. على أي حال، لا شك أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للدفاع الوطني سوف تثير حفيظة كل من موسكو وبكين، ما قد يدفعهما إلى الدخول في سباق تسلح خطر مع واشنطن، وبالتالي عودة نشوب حرب باردة جديدة. وفي ضوء هذا الاحتمال، سيصبح الكلام عن إمكانية الشراكة في الحوكمة العالمية مؤجلا إلى إشعار آخر، وسيكون التوتر وتناقض المصالح هما العنوانين البارزين لوصف العلاقات الأمريكية- الروسية- الصينية في الأيام المقبلة. ومما يعزز من هذا الاحتمال، تزعزع ثقة كل من روسيا والصين في زعامة الرئيس الأمريكي. فمع انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2016، أملت موسكو وبكين انطلاق حقبة جديدة من «الصداقة» بين أعداء الحرب الباردة السابقين، وفق منطق «الشراكة ذات المنفعة المتبادلة». لكن سرعان ما طغت الشكوك في «قيادة» ترامب، خاصة بعدما قرر عدم تخفيف العقوبات المفروضة على موسكو فيما يتعلق بأوكرانيا، في ضوء الاتهامات بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كما مالت واشنطن أيضا لدعم حلفائها في شرق وجنوب شرق آسيا في مواجهة تحركات بكين في بحر الصين الجنوبي، وهو ما ظهر في عدد من المناورات العسكرية وصفقات التسليح الضخمة التي قامت بها الولايات المتحدة مع هؤلاء الحلفاء. ومما لا شك فيه أن هذا التجاذب بين واشنطن وموسكو وبكين ومسار اختبار القوة بين هذه القوى سيكونان حاسمين أو مؤثرين في مآلات أزمات كبرى من سوريا إلى الملف النووي الإيراني إلى الأزمة الكورية في شرق آسيا. * خبير العلاقات الدولية والشؤون الآسيوية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية) a.kandil1974@gmail.com
مشاركة :