منذ بداية إدارة الرئيس دونالد ترامب، توقعت (الحديث للكاتب) بنوع من اليقين أن ترامب ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو سيسببان الكثير من المتاعب، عند التقائهما مع بعضهما بعضاً. وكان منطقي يقوم على حقيقة بسيطة، مفادها أن اثنتين من النفسيات المغرورة والمتبجحة لا يمكن أن تلتقيا في مكان واحد، وفي الزمن ذاته، وبالطبع ليس هناك أكثر غروراً من ترامب ونتنياهو. وهناك عوامل أخرى تتضمن اليمين الإسرائيلي المتلهف إلى دفع نتيناهو نحو أقصى اليمين قدر استطاعته، ناهيك عن نزعة رئيس الحكومة الخارقة للطبيعة في المبالغة في الأمور. وأعتقد أن ذلك سيؤدي عاجلاً وليس آجلاً إلى حدوث توتر بين رئيس أميركا وإسرائيل، بحيث لا تعود سياسة هذه الأخيرة مقبولة عند ترامب. وبحلول نهاية عام 2017، وإعلان الرئيس ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار يوضح حاجة ترامب إلى خَطْب ودّ القاعدة الجمهورية، وافتقاره لاحترام السياسة الخارجية للنخبة، كان عليَّ أن أفهم الرسالة على أن ثمة كارثة مقبلة. هوس ترامب يصيب ترامب هوس بتصوير نفسه على أنه مغاير للرئيس باراك أوباما، وأن الشمس والقمر والنجوم، كلها منحازة بصورة تامة لتشكيل رابطة قوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد عكس نائبه بينس، في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي هذه المعتقدات، إذ قال «نحن نقف مع إسرائيل، لأننا نؤمن بقوة الحق على الباطل، والطيب على الشرير، والمتحرر على المستبد»، وبناء عليه حدث أن الفلسطينيين والإيرانيين، وتنظيم «داعش»، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، جميعهم يلعبون أدواراً مناسبة في هذه المسرحية الأخلاقية. خلال إدارة ترامب انتقلت العلاقة الإسرائيلية الأميركية من حالة العلاقة المميزة والمهمة إلى العلاقة الحصرية. ولدى مشاهدة زيارة نائب الرئيس مايك بينس إلى إسرائيل، يرى المرء مهرجان حب لم أرَ مثله خلال 40 عاماً من مراقبة القادة الأميركيين، وهم يتعاملون مع نظرائهم الإسرائيليين سريعي الغضب. لقد كانت رحلة بينس قليلة الأهمية قياساً بإنجازاتها، لكنها مهمة بانعكاساتها وما تمثله، فخلال إدارة ترامب انتقلت العلاقة الإسرائيلية الأميركية من حالة العلاقة المميزة والمهمة إلى العلاقة الحصرية. وباتت الحاجة إلى إلغاء أي فرق بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي طالما كانت الفكرة الأساسية التي يطالب بها المتطرفون في دعم إسرائيل، إلى سياسة رسمية لإدارة ترامب، وبات العديد من خبراء السياسة الخارجية يخشون أن مصالح أميركا يمكن أن تضيع في خضم هذه العملية. ولطالما زار نواب الرؤساء الأميركيين المؤيدون لإسرائيل، أمثال آل غور، وجو بايدن إسرائيل، لكنَّ أحداً لم يترك الانطباع الذي تركه بينس. فقد تم إعلان رحلته في نهاية أكتوبر، وتأجيلها نتيجة التصويت على الضرائب في ديسمبر، وليس بسبب السياسة الخارجية. وبالطبع، كانت له محطات في كل من القاهرة والأردن، لكن كل ذلك كان مجرد أشياء هامشية في مواجهة القصة الرئيسة، وهي: زيارة بينس لإسرائيل. وأمضى نائب الرئيس 48 ساعة في إسرائيل، قال خلالها كل ما أرادت إسرائيل سماعه. وتعهد بتعديل الاتفاقية النووية الإيرانية أو إلغائها. وأوضح أن سفارة الولايات المتحدة ستفتح بالقدس في أقصر وقت ممكن. وأكد شرعية القدس باعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل، وتعهد بجعل العلاقات الأميركية الإسرائيلية أكثر قوة. واتضح أن بينس استفاد من تغيير توقيت الزيارة، فقد جاءت زيارته بعد بضعة أيام من إلقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس خطاباً، رفض فيه قرار ترامب المتعلق بالقدس، وأنكر علاقة اليهود التاريخية بإسرائيل. وقال عباس في وصف إسرائيل «إنه مشروع صهيوني، ليست له علاقة باليهودية». وأضاف «تم استخدام اليهود كأداة تحت ذريعة ما أطلقوا عليه أرض الميعاد، أو سموه ما شئتم. وكل شيء تم تلفيقه تماماً»، أما الذين كانوا يقولون إن عباس ليس شريكاً للسلام، ونتنياهو كان أولهم، فإنهم لم يحلموا بجعل الرجل يقول ذلك. لكن بينس قال، في خطاب غارق في التدين والمراجع الدينية، ألقاه في الكنيست الإسرائيلي، إن «علاقة اليهود لم تنفصل عن هذه المدينة المقدسة منذ نحو 3000 عام، وفي هذه المدينة المقدسة وبالتحديد في جبل مروة، قدم النبي إبراهيم ابنه إسحاق أضحية، وكل ذلك يرجع إلى إيمانه القوي بالله». واعتبر بعض اليساريين في إسرائيل، أمثال الكاتب تشيمي شاليف من صحيفة هاآرتس خطاب بينس، أنه «أحد أكثر الخطابات الصهيونية قلة للخجل والحياء، التي ألقيت في الكنيست الإسرائيلي منذ نشأته، وربما يمكن أن نطلق عليه اسم عظة دينية، فإن هذه الكلمة تناسبه أكثر. وبالنسبة (لليهود المسيحيين) والإنجيليين أمثال بينس، فإن الخطاب كان تأكيداً أن أياماً مهمة ستقع هنا مرة أخرى». وبينس لا يلعب سياسة رخيصة الآن للتودد لقاعدته فحسب، وإنما هو يرى إسرائيل حقاً بمصطلحات دينية. ففي مقابلة أجريت مع بينس في إسرائيل عام 2006، بدأ المقابلة بتلاوة سطور من «سفر التكوين»، حيث قال «سأبارك الذين يباركون اليهود، وألعن الذين يلعنونهم»، وتعكس وجهات نظر بينس ما يعتقده الملايين من الإنجيليين الذين يشعرون كلهم بالأسلوب ذاته. وهذا ليس بجديد. لكن الجديد في الموضوع أن لدينا الآن شخصاً مؤثراً، هو نائب الرئيس الأميركي، يجلس إلى جانبه، ولا يظهر أي اكتراث، ولا حتى يتظاهر بأنه ينظر بصورة عادلة إلى طرفي الصراع العربي الإسرائيلي، إذ إنه منصب تماماً إلى جانب إسرائيل. وفي حقيقة الأمر، إن فحوى حجة بينس إلى إسرائيل، لا تعكس المعتقدات الدينية ونهاية التاريخ للكثير من المسيحيين الإنجيليين، وإنما تعكس الحسابات الأكثر عملية التي من شأنها دعم إسرائيل بصورة عقلانية في قضايا، مثل: موضوع القدس، وعملية السلام، والاتفاقية النووية الإيرانية، ودعم إسرائيل في الأمم المتحدة مهما فعلت. وهو الأمر الذي لقي صدى طيباً بين الناخبين الجمهوريين. وأظهر استطلاع لمركز «بيو» أن ما كان يعتبر قضية تهم الحزبين الرئيسين في أميركا سابقاً، أصبح وبصورة متزايدة مسخراً لخدمة سياسة حزب واحد. وأن 79% من الجمهوريين يقولون إنهم يتعاطفون مع إسرائيل أكثر من الفلسطينيين، مقارنة بـ27% من الديمقراطيين يقولون ذلك، وهذه الفجوة تتسع باستمرار أكثر من أي وقت منذ عام 1978. لكن السؤال المطروح الآن، هل ستستمر قصة الحب هذه؟ يقول العديد من الخبراء بعملية السلام إن التقرب الكبير إلى إسرائيل، يعتبر غير منطقي وغير عقلاني، ويضر بالقدرات الأميركية على التعامل مع القضايا الصعبة مثل عملية السلام في الشرق الأوسط، والاتفاقية النووية الإيرانية، كما أنه يقوض المصالح القومية للولايات المتحدة. لكن بالنسبة لترامب فإن الأمر غير ذلك تماماً، إذ إن عملية السلام بالنسبة له ميتة، ويمكن استدعاء الأنبياء موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام، إلى عملية السلام لحلها، وربما لن ينجحوا في ذلك. ومن الواضح أن أي شخص يعتقد أن تعطش ترامب لصنع «الاتفاق النهائي» يمكن أن يدفعه إلى الضغط على نتنياهو، فإنه واهم ومخطئ. وربما نصاب بالدهشة، عندما يكشف ترامب عن خطته المفترضة للسلام، إذا كانت موجودة أصلاً، فإنه سيكون مستعداً لاستخدام الخل والعسل. وربما تقوم إسرائيل بعمل طائش كبير لإزعاج الرئيس، كما توقعت يوماً. وربما يشعر الزعماء العرب بغضب شعوبهم، فيضطروا إلى الضغط على الولايات المتحدة، كي تكبح إسرائيل من غلوائها. وربما يعتقد العقلاء أنه حتى لو كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة، التي صادف أنها تشترك مع الولايات المتحدة في المصالح والقيم، فإن هذا لا يبرر أن تلتصق الدولتان ببعضهما بعضاً، كما تلتصق القوقعة بجدار قارب. ويمكن أن تحصل أشياء عدة في أميركا ترامب أو «ترامبلاند»، وعلى كل الأحوال فإن إدارة ترامب لم تمضِ في السلطة أكثر من عام فقط. لكن بالنظر إلى القوانين التي تحكم العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هذه الأيام، فإن حدوث نزاع كبير بينهما يبدو غير وارد. آرون ديفيد ميللر : نائب رئيس المبادرات الجديدة وأحد علماء مركز ويلسون
مشاركة :