اللامبالاة من الأسباب الجوهرية لتفكك العلاقات البشرية بقلم: عبدالستار الخديمي

  • 2/4/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن أن يتقدم أي شعب ما دامت اللا مبالاة والاستهتار وعدم الاكتراث، سمات طاغية على المعاملات اليومية، حينها نفقد شعار ابن خلدون الشهير الإنسان مدني بالطبع.العرب عبدالستار الخديمي [نُشر في 2018/02/04، العدد: 10890، ص(21)] من الصعب جدا في بعض الأحيان أن تفهم بعض الظواهر التي تفشت في صفوف مختلف الشرائح الاجتماعية على اختلاف مراحلها العمرية، ولعل ظاهرة اللا مبالاة تمثل النموذج الحي لمثل هذه الظواهر. إنه سلوك يومي يمارسه، عن عمد مسبق، أشخاص عديدون في فضاءاتهم العائلية وفي مدارسهم وفي مراكز عملهم وفي الشارع، بل في كل الأماكن التي يمارسون فيها أنشطتهم اليومية. وعلى قدر ما تفشت هذه الظاهرة وامتدت اجتماعيا على قدر ما أصبح الاعتقاد السائد يميل إلى اعتبارها سمة من سمات طبيعة الحياة الراهنة، وكأنها عوّضت نقيضها من معاني الجدية والتفاني والحزم. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، زرت في إحدى المرات ورشة لإصلاح السيارات وكان الاستقبال في بدايته حميميا يشي بحب الميكانيكي لعمله وحرصه على التفاني فيه وإرضاء طالب الخدمة. وبعد أن عاين السيارة بعين فاحصة أخذ قلما وورقة من “مكتبه” وراح يدون ويجمع ويطرح ثم أعلمني بالتكلفة المادية، فقبلت عن مضض لأن المبلغ المطلوب بدا لي مشطا. وتركت السيارة في الورشة واتفقنا على موعد للإنجاز، ولكن الأمر طال وبقيت أتردد عليه أياما بل أسابيع. بعدها أعلمني بأن السيارة جاهزة ولكنها لم تكن كذلك حيث تعطبت مرة أخرى، وتتالت الأعطاب ومعها زيارتي لهذه الورشة مرارا وتكرارا وفي نهاية المطاف اتضح أن الذي وقع إفساده أكثر من الذي أصلح.. ما كان مني إلا أن أودعت أمري لله ورحت أبحث عن غيره ربما يصادفني “ولد حلال” فيصلح ما أفسده، ويريحني نفسيا وجسديا وماديا. إنها مجرد عينة تتكرر باستمرار في شتى المجالات، فالساهرون على أسرهم يؤجلون أعمالهم ولا يبالون بما قد ينجر عن عدم الاكتراث بتوفير ممهدات النجاح المادية والنفسية والذهنية لأبنائهم ومنظوريهم، فالناس لا يبالون بالأمراض وبالوقاية منها ولا تظهر جديتهم إلا عند حصول المكاره. لا يزورون الأطباء لتشخيص سبب أوجاعهم ويعمدون إلى التطبيب بالأعشاب وغيرها، والأدهى من كل ذلك يحاولون مداواة أبنائهم حديثي الولادة بنفس الطريقة، غير مكترثين لما قد يحل بهم نتيجة الإهمال. يخسر الأشخاص أسنانهم وأضراسهم بعدم مداواتها عند إصابتها وفي الوقت المناسب، فيعمدون إلى البحث عن تسكين الآلام بأقصر الطرق وأيسرها، في كل الأمراض تقريبا. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعرّض تربية أبنائنا الذين يمثلون مستقبل مجتمعنا إلى الإهمال بسبب لا مبلاتنا، يجب أن نهتم بكل الجزئيات والحيثيات والتفاصيل التي تخص منظورينا خاصة على مستوى تجويد التصرفات والسلوكيات الاجتماعية وفق نسق قيمي وأخلاقي يعير العلاقات الاجتماعية الحيز الأكبر. فلا يمكن أن يتقدم أي شعب ما دامت اللا مبالاة والاستهتار وعدم الاكتراث، سمات طاغية على المعاملات اليومية، حينها نفقد شعار ابن خلدون الشهير “الإنسان مدني بالطبع”. وتسربت هذه السلوكيات إلى المدارس والمعاهد والكليات فأضحى التلاميذ والطلبة غير مبالين بدروسهم وبالتحصيل الأدبي والعلمي والتكنولوجي. وبدأت عزائمهم تفتر شيئا فشيئا، لتعوّضها سلوكيات أخرى من قبيل الاهتمام اللا متناهي بهواتفهم الجوالة وبوسائلهم الإلكترونية، يتابعون بشغف لا مثيل له منصات التواصل الاجتماعي والتي تقودهم في أحايين كثيرة إلى الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، وذلك رغم اجتهاد المربين للتحفيز وزرع الجدية في تلامذتهم، كتجذير قيمة المطالعة مثلا، وما لها من انعكاسات إيجابية على الفرد في أسرته ومجتمعه، ما يساهم في الرفع من قيم المواطنة والعيش المشترك. فقدت المنافسة الشريفة التي تقوم على بذل الجهد والمواظبة والمثابرة في صفوف كل الفئات الاجتماعية على اختلافها، فلم تعد هناك حوافز، بحسب البعض، تشحذ الهمم لإنجاز الأعمال بدقة ومهارة مع الالتزام بالمواعيد وضبطها، وكذلك المحافظة على نقاء العلاقات الاجتماعية لأن من يحترم عمله وكلمته وموعده فهو بالضرورة يحترم علاقاته بالآخرين ويحافظ عليها. ومن أبرز مظاهر اللامبالاة ما نلاحظه من بيروقراطية مقيتة تنخر الإدارة ومؤسساتها الخدمية، فلا نسمع سوى “ارجع غدوة” (عد غدا)، وهو مصطلح شائع يستعمله الموظفون دون اعتبار لما يكابده طالبوا الخدمات من مشقة وتعب وتعطيل لمصالحهم. ففي بعض الأحيان يتطلب توفير الوثائق المطلوبة لتأثيث ملف ما لإنجاز خدمة ما أسابيع وأشهرا عديدة، وذلك ليس إلا هدرا للوقت والطاقة والمال العام. على الجميع مهما كانت انتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية أن يقتنعوا بأن من أهم بوادر النجاح في الحياة، اتخاذ مجموعة من القناعات الأخلاقية تعتمد المفهوم العام للتشاركية الجماعية وتبادل المنافع والمصالح، وجعلها مقياسا حقيقيا للعلاقات الأسرية والاجتماعية وحتى الحضارية. أما إذا واصلوا في لا مبالاتهم وتنصلهم من المسؤوليات التربوية والأخلاقية والعملية، فإن ذلك لن يساهم إلا في المزيد من التفكك على مستوى النسيج الأسري شديد الحساسية والذي يشكو أصلا من اتساع الهوة بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب طبيعة الحياة المعاصرة وكذلك على مستوى النسيج الاجتماعي بجميع مظاهره القيمية والمادية. كاتب تونسيعبدالستار الخديمي

مشاركة :