محمد الأسعد تعليقاً على صدور كتاب أستاذ التاريخ البولندي اليهودي المهاجر مع أبويه إلى فلسطين في العام 1948 «شلومو زاند» المعنون «اختراع الشعب اليهودي»، 2009، كتب أحد كتاب صحيفة الأوبزيرفر البريطانية العبارة التالية: «ربما لا تغيّر الكتب المكونة من عاطفة قوية ومعرفة واسعة الأوضاع السياسية، ولكن إن فعلت فسيكون هذا الكتاب علامة على طريق التغيير». إن قراءة هذا الكتاب موضع التعليق وكتب أخرى مشابهة، أثارت في ذهني قضية أبعد من التغيير السياسي؛ قضية الكتب التي تغيّر الوعي والمخيلة بالمعرفة وحدها من دون الحاجة إلى إثارة عواطف أو مشاعر معينة، أي الكتب المحرِّرة من الأوهام والخرافات والأساطير وما يجري في مجراها، والتي ستقود في نهاية المطاف إلى مدّ الإنسان بقدرات ذات فاعلية على الصعيد الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وشتى متطلبات الحياة الإنسانية العاجلة والآجلة على حد سواء. يمكن القول إن كتاب أستاذ التاريخ هذا، وعنوانه الأصلي في العبرية «متى وكيف تم اختراع الشعب اليهودي؟»، يسعى إلى تحرير، المخيلة البشرية، والمخيلة اليهودية على وجه الخصوص، وإخراجها من نفق الخرافة الممثلة في اختراع شعب اسمه «الشعب اليهودي»، واختراع أرض اسمها «أرض إسرائيل»، وتبعاً لذلك تحرير مخيلة الشعوب التي ابتلعتها هذه المخترعات، بما في ذلك العرب الذين بدأ بعضهم يميل إلى الوقوع في أسر الأساطير «الإسرائيلية». صحيح أنه ينطلق من قناعة بأن الصلة الدينية بأرض ما لا ترتب لأصحاب هذا الدين حقاً تاريخياً لهم في هذه الأرض، وأن ليس هناك من رابطة «عرقية» أو «لغوية» تجمع بين معتنقي الديانة اليهودية، ولاشيء يوحّد بينهم، بما في ذلك الدين نفسه الذي لا يصنع شعباً، إلا أنه يتجاهل، وهو المؤرخ، أن هناك رابطة وحيدة تربط بين هذا الخليط من الأعراق واللغات المسمى «إسرائيل» هي الرابطة الاستعمارية، المجسدة بمشروع استعمار فلسطين، تماماً كما ربط مشروع استعمار الأمريكتين شتى الأعراق والطوائف واللغات الأوروبية في اندفاعها نحو هاتين القارتين، وكما فعل في دفع خليط مماثل نحو استعمار جنوبي القارة الإفريقية، أو استعمار أستراليا. في كتابه الثاني الصادر في العام 2012، وعنوانه «اختراع أرض إسرائيل»، يواصل «شلومو زاند» نهجه في «نسف الحقل المحتشد بالأوهام» على حد تعبير الناقد الانجليزي «تيري إيجلتون»، فيكشف عن أنه حتى ما تسمى «أرض إسرائيل» مجرد اختراع، فهذا التعبير غير موجود في العهد القديم، وتعبير «أرض كنعان» هو التعبير الشائع هناك، إضافة إلى أن ذكر أرض كنعان لا يتضمن مدناً توراتية مثل «حبرون» أو «بيت لحم»، ولم تكن هناك ما تسمى المملكة الموحدة على أرض فلسطين. وتأتي بعد ذلك خطوة إضافية في كتابه «كيف توقفت عن أن أكون يهودياً»، 2014، خطوة يحرر فيها ذاته ومخيلته ووعيه، ما أن بدأ يرى حسب قوله «أن «إسرائيل» واحدة من أكثر المجتمعات عنصرية في العالم الغربي»، ويفسّر لماذا لم يعد يودّ أن يكون يهودياً بعد اليوم. ومع ذلك، وبعد هذه السلسلة من الكشوفات، وخاصة بعد نسفه للأساس العرقي الذي تقوم عليه الهوية اليهودية، يتمسك أستاذ التاريخ هذا بدعم «إسرائيل»، ليس على أساس حق تاريخي مزعوم، بل على أساس أنها «موجودة» فحسب، وسيؤدي تدميرها إلى حدوث مآسٍ جديدة. * * *هذه الكتب المحرِّرة تعيد إلى الذاكرة كتاباً مهماً في السياق ذاته، كتاب الهنغاري اليهودي «آرثر كوستلر» (1905- 1983) الكاتب الناشط على الجبهة الثقافية في أيام الحرب الباردة ضد النظم الاشتراكية، وأحد مجندي الواجهة الثقافية المسماة «منظمة حرية الثقافة» الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين. وهو ذاته أحد المراجع التي استند إليها «شلومو زاند» في تفنيد الأساس العرقي للهوية اليهودية. نشر هذا الكتاب تحت عنوان «القبيلة الثالثة عشرة..إمبراطورية الخزر وتراثها»، وتقوم أطروحته الأساسية على بحث موسع في أصول يهود شرقي أوروبا الذين يشكلون 70% من يهود قوميات مختلفة، وتصل إلى أن اليهودية توقفت منذ زمن طويل عن أن تكون هوية قومية لشعب من الشعوب، أو أن تكون ثقافة خاصة بجماعة عرقية. أبرز الأدلة على هذا، تحوّل قبيلة الخزر التركية إلى اليهودية، وقيامها منذ منتصف القرن الثامن الميلادي بتكوين إمبراطورية واسعة تمتدّ من بحر قزوين شرقاً إلى أواسط أوروبا غرباً، ثم انهيارها على يد تحالف بين الروس وبيزنطة في القرن الثاني عشر، مما تسبب في نزوح الخزر اليهود إلى أوروبا واستيطانهم المكثف في بولندا وليتوانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا. مصادر الكاتب توزعت بين عربية وبيزنطية وعبرية وفارسية وأوروبية شرقية، بالإضافة إلى تنقيبات علماء الآثار السوفييت في المنطقة المسماة «خازاريا». وتمدنا المصادر العربية والبيزنطية بفصل من فصول الصراع السياسي/ العسكري في هذه المنطقة بين العرب المسلمين والخزر وبيزنطة، حيث وقفت إمبراطورية الخزر سداً أمام الفتوحات العربية، ومنعت تغلغل المسلمين في أوروبا الشرقية وتطويق بيزنطة. وينتقل «كوستلر» إلى مصادر عبرية هي عبارة عن رسائل تسمى «المراسلات الخزرية»، تلك التي يقال إنها تمت بين «حسداي بن شبروت» اليهودي في بلاط عبد الرحمن الثالث في قرطبة، وبين ملك الخزر. في هذه المراسلات يسأل «حسداي» ملك الخزر عن بلاده، وعن السبط الذي ينتمي إليه، فروى له الملك قصة تحوّل جده «بولان» إلى اليهودية بوساطة هبوط ملاك دعاه إلى الإيمان وبناء معبد، وحين اعتذر الملك بقصر ذات اليد، أكد له الملاك أن كل ما عليه أن يفعله هو أن يغزو أرمينيا حيث ينتظره كنز من ذهب وفضة، وهكذا فعل، وأقيم المعبد، بل وزوده «بولان» بتابوت للعهد أيضاً.أما سبب انهيار إمبراطورية الخزر، ونزوح قبائلها إلى أوروبا الشرقية، فيرجعه إلى التحالف البيزنطي الروسي ضدها، وتحويل عاصمتها إلى أنقاض بحدود العام 965 ميلادية. وفي تناوله لأصول يهود بولندا والمجر وأوكرانيا وغيرها، تتكشف له حقيقتان؛ الأولى اختفاء الشعب الخزري من موطنه الأصلي، والثانية ظهور التجمع اليهودي الضخم في المناطق المجاورة. ويمضي إلى استقراء الأدلة اللغوية للتعرف إلى هذه الهجرات، ليصل إلى أن الأدلة التي أوردها تدعم قضية المؤرخين المحدثين الذين أثبتوا أن الغالبية العظمى من اليهودية المعاصرة لم تأت من فلسطين، ولكن من أصل قوقازي. ويلخص كل هذا بالنتيجة التالية: إن اليهود في أيامنا لا يمتلكون تراثاً حضارياً مشتركاً، وإنما أنماط سلوك وعادات جاءت بفعل التوارث الاجتماعي من تجربة «الغيتو»، ومن ديانة لا تمارسها الأغلبية. واختلافهم العرقي ينفي أسطورة قبيلة التوراة التي احتفظت بنقائها السلالي عبر العصور، فبالإضافة إلى التهجين المتواصل، جاء التباين من تحول أناس من أعراق مختلفة إلى اليهودية، مثل «فلاشة» الحبشة، ويهود الصين واليمن، وأخيراً الخزر. وهنا يضع «كوستلر» ما سيكون مدماكاً أساسياً في كتب «شلومو زاند» بعد ثلاثة عقود تقريباً: «إن ما يسمى «الشعب اليهودي» بالمعنى التوراتي الذي رسخته وقامت عليه في العصر الحديث هذه الفكرة بكل الجنسيات التي اجتمعت تحت رايتها، لا وجود له، وما هو موجود شكل مخترع اصطناعاً، ترسخ بفعل معتقدات متوارثة تكشف زيفها علوم الأجناس والتاريخ واللغة».
مشاركة :