غزة لن تكف عن ايلامنا.. لأن وجعها لا يتوقف على المساحة الممتدة في الزمن، فهي لا تعرف الهدوء ولا السكينة ولا الحياة الكريمة، كأنها لم تخلق سوى للعذاب أو أن عليها أن تكفر ذنبها الذي اقترفته يومًا بولادة الحركة الوطنية، فكل ما يجري فيها من مآسي في الأزقة والشوارع والساحات وخلف الجدران عصي على التفسير، ولم يعد لهذه الجغرافيا الصغيرة التي تحوى جسد غزة قدرة على احتمال الحياة. غزة الشاهد على تاريخنا المعطوب بسلسلة هزائم لم تتوقف من المحيط الى الخليج، وهي تذبح أمامهم جميعاً بلا رحمة وبلا رأفة، غزة الشاهد على عبث الفلسطينيين وفشلهم في إدارة شعبهم حين أعطيت لهم فرصة الإدارة، فإذ بهم يحولون الشعب الى حفنة من المتسولين، غزة الشاهد على موت الضمير الإنساني الذي يقتلها بحياده الجارح أمام ما يتحقق من كارثة انسانية وبيوت لا تجد ما تأكله وسط تخمة تملأ الكون. غزة الشاهد والشهيد المسجى على عتبة الحضارة الانسانية المصابة بلوكيميا الأخلاق أمام سطوة المال والمصالح، غزة الشهيد الذي تم اغتياله بتواطؤ الجميع في أسوأ خيانة للضمير، لأن غزة صنعت ثورة ملأت الكون لتكشف عريهم جميعًا لأنها الضحية التي رفضت أن تموت أثناء الجريمة لتكشف الجريمة والجاني والشهود في محاكمة أمام الكون. في غزة مآسي لا يمكن للكلام ولا الأقلام ولا المكتوب أو المرئي أو المسموع وصفها.. في غزة يهرب الآباء خشية من مواجهة أطفالهم الذين شاء القدر أن يلقي بهم في هذه المنطقة البائسة.. في غزة يدور الأطفال متسولين في كل الشوارع والميادين ولا يعودون بشيء لأن المارة يشاركونهم الفقر.. في غزة تتسول النساء في الأسواق علها تعود لأطفالها ما يسد جوعهم.. في غزة حالة انكسار تتبدى على وجوه من تصادفهم بلا استثناء، فقد أطاحت بمن كانوا يومًا أعزاء قوم وحرائر فلسطين اللواتي سجلن صفحات في تاريخ المجد الفلسطيني لم يعدن كذلك، وفقدن كل شيء. الناس في غزة كمن لدغتهم أفعى، مصابون بصدمة الواقع وكيف تدحرجت هذه المنطقة بهذا الشكل؟!.. لا أحد يعرف.. ولكن الثابت أن كل ما حدث لم يكن مجرد مصادفة، وأن هناك من يتفنن في تنفيذ خطة الانهيار باحتراف شديد، فالذي يحدث كان يحتاج الى عقول وأدمغة وأدوات كي يصفي حساب تاريخ طويل ويحول هذه المنطقة من خزان للإرادة الوطنية الى مخزن طافح بالبؤس الإنساني، من منطقة تعيش على الكرامة والكبرياء الى منطقة كسروا فيها كل شيء ونزعوا منها كل عناوين الكرامة والشموخ. غزة مصطفى حافظ وأحمد الشقيري وياسر عرفات وحيدر عبد الشافي تبحث عن رغيف الخبز، غزة التي ملأ رجالها سجون الاحتلال تلتقطهم العدسات يفتشون في تجمعات القمامة، فأي عقل يمكن أن يفهم ماذا يحدث؟ وأي ضمير يمكن أن يحافظ على توازنه أمام هذا المشهد؟ وأي سياسة يمكن تأييدها وسط هول ما يحدث؟ وأي مسئول عن شعب يمكن أن ينام متجردًا من المشاهد التي تدمي القلب والعقل معًا؟ هذا يحتاج الى دراسة من نوع آخر. كبار التجار الذين كانوا سادة يومًا ما تنحني لهم الهامات أصبحوا في السجون لعدم قدرتهم على تسديد التزاماتهم بعد الافلاس، طلاب لم يعد بإمكانهم اكمال دراستهم، خريجون ينضمون الى طوابير البطالة الطويلة جدًا يتجاوزون سن الثلاثين بلا عمل ولا أمل ولا بيت ولا زواج، ولا شيء سوى حلم واحد ووحيد وهو تحقيق حق الهجرة من الوطن، أتذكرون عندما كانت الناس تقاتل من أجل حق العودة؟ شكرًا لمن ساهم في قلب المعادلة ليصبح الحلم هو الهجرة من الوطن. غزة تدفع ثمن براءتها وعفويتها وتمردها ورفضها ومعاندتها لحركة التاريخ المجحفة، عندما صنعت ثورتها وصفعت كل الذين تآمروا على مشروعها.. غزة يتم تحطيمها وهي تنهار وتغرق في البؤس والدم، لكنها ستقف يومًا ما كعادتها، وعندما تقف ستحاسب كل الذين تآمروا وتواطأوا عليها.. ستحاسب كل من ضربها، وكل من هربها، ومن أذلها، ومن تسيد عليها، ومن سرقها، ومن حرقها، ومن عاقبها، ومن حاصرها. غزة تتحطم ولكنها لن تنهزم كما قال آرنست همنغواي، لأنها عاركت على أرضها ما يكفي لكل الهزائم، وصقلتها تجارب الأنواء العاصفة على امتداد تاريخها وبقيت.. قد تضعف.. وقد تنحني قليلاً للريح.. وقد تبكي بصمت، لكنها ستصمد لأن لها هوية خاصة وطعم ولون ورائحة تشبه رائحة البحر الذي تتكئ على ساحله دون أن تخشى أن يحرفها الموج. في غزة كف الشباب عن الزواج.. في غزة أكثر من مائة ألف عانس.. في غزة توقفت الحياة ولا أمل ولا عمل.. في غزة كارثة لا تكتبها الأقلام، فقد سكت الكلام عن الكلام لأن فظاعة المشهد أكبر من الوصف.. يا الله ماذا فعلوا بها؟ الأمر في غاية الوضوح.. والمتهمون تركوا بصماتهم بانتظار المحاكمة.. وهي قادمة لا محالة… إنها غزة…!!!! Atallah.akram@hotmail.com
مشاركة :