الإيطاليون يعولون على تأثير العسكريين الأميركيين القلقين من الدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط، وهؤلاء يلعبون دورا أساسيا في صياغة توجهات إدارة ترامب إزاء مناطق الصراعات.العرب خالد حنفي [نُشر في 2018/02/08، العدد: 10894، ص(6)]ليبيا في دائرة المصالح الإقليمية الكبرى تسعى إيطاليا لنيل الدعم الأميركي في ما يخص دورها في ملف الصراع الليبي لمواجهة تنامي النفوذ الفرنسي والروسي الطامحين إلى إيجاد موطئ قدم في هذا البلد، كما تسعى لدرء تهديدات الإرهاب وتدفقات الهجرة وتأمين استثماراتهم في الطاقة وإعادة الإعمار، فضلا عن أهداف داخلية تتعلق بالمعركة الانتخابية في إيطاليا خلال الشهر المقبل. قبل أيام قلائل، توصلت روما إلى اتفاق مع واشنطن على تشكيل فريق مشترك لمنع تحويل ليبيا إلى قاعدة لـداعش، إبان الزيارة الأخيرة لوزير الداخلية ماركو مينيتي إلى الولايات المتحدة، وهو ما نال تأويلات كثيرة بلغت حدها الأقصى، عندما ذكرت صحيفة “لا ستامبا” الإيطالية مؤخرا أن ثمة استعدادا أميركيا لمنح تفويض لإيطاليا في ليبيا، وكأن هذا البلد الأخير بلا سيادة. اللافت أن هذه الخطوة جاءت بعد قرابة التسعة أشهر من تلقي الإيطاليين لما يشبه “الصدمة” من واشنطن، عندما أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إبان مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني في أبريل من العام الماضي، أنه لا يرى لبلاده دورا في ليبيا باستثناء مكافحة الإرهاب، في رسالة خيبت، على ما يبدو، آنذاك آمال روما في نيل الدعم الأميركي لمسعاها لممارسة اليد الطولى في رسم المسار السياسي والأمني في ليبيا. لكن السؤال هنا، هل تملك الولايات المتحدة القدرة على إعطاء روما اليد الطولى في ليبيا أو حتى منحها تفويضا بالمعنى الصريح الذي ذهبت له لا ستامبا الإيطالية؟ هنا، يبدو الأمر فيه قدر من المبالغة وإغفال طبيعة السياقات المعقدة للصراع الليبي، والتي تحول دون انفراد قوة داخلية أو خارجية بالتأثير في مجرياته. صحيح أن واشنطن كقوة عالمية مهيمنة لديها تأثير واسع في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط، ومنها ليبيا، لكن الحاصل أن هنالك قوى دولية أخرى مثل روسيا وفرنسا تنازعها ذلك التأثير، بل وتتفوق عليها أحيانا، كما برز في سوريا عندما استطاع الروس تغيير معادلة الصراع نسبيا لصالح بقاء النظام السوري في مواجهة المعارضة المدعومة أميركيا. وبالمقارنة مع سوريا، فإن أدوات التأثير الأميركي في ليبيا تقل نسبيا من حيث حجم وطبيعة التواجد العسكري والنفوذ السياسي، بخلاف الارتباط السوري بقضايا أخرى تكتسب أولوية لدى إدارة ترامب، خاصة الملف الإيراني، فضلا عن أن واشنطن ترى الملف الليبي إجمالا ساحة للنفوذ الأوروبي، وبالتالي فهي لاعب غير مباشر منذ سقوط نظام القذافي، كما برز إبان التدخل في ليبيا في العام 2011 والذي قاده حلف الناتو بدعم أميركي واضح.الإيطاليون يراهنون على واشنطن لمواجهة التحركات الفرنسية تجاه ليبيا، والتي أخذت خطوات متصاعدة منذ صعود إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم زد على ذلك، فإن الدور الأميركي في ليبيا يركز أكثر على ارتباطات مكافحة الإرهاب في هذا البلد مع مناطق أخرى في وسط وغرب أفريقيا، تشكل أيضا مصادر للطاقة والاستثمارات والمنافسة مع الصعود الصيني في القارة السمراء. وقد أفرزت الساحة الليبية معطيات جديدة قد تسهم في تفسير تحرك الطرفين الأميركي والإيطالي للتعاون المشترك في الملف الليبي، لأن الاتفاق، كما بدا من مضمون تصريحات وزير الداخلية مينيتي للتلفزيون الإيطالي في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، يستند على قاعدة تبادل المكاسب المشتركة التي يملكها البلدان في مواجهة إرهاب تنظيم الدولة. ويتعزز التعاون الأميركي الإيطالي في ظل عدة معطيات على الساحة الليبية، أولها التقارير الاستخبارية التي تتحدث عن فرار فلول داعش من سوريا والعراق بعد هزيمة التنظيم إلى جنوب ليبيا التي تعاني فراغا أمنيا وانقساما للسلطة، وثانيها مخاوف روما من تغيير تكتيكات التنظيم عبر إمكانية تخفي عناصره ضمن تدفقات الهجرة القادمة لها من ليبيا عبر البحر المتوسط، ما سينجر عنه تهديد للأمن الإيطالي والأوروبي بشكل عام. وما كان لمثل هذه المعطيات أن تنعكس في اتفاق أمني بين روما وواشنطن، إلا بعدما أصبحت روما رقما نافذا لا يمكن لواشنطن تجاهل تأثيراته على إستراتيجيتها بالمنطقة، إذ شهد العام الماضي، مثلا، تحركات إيطالية في مناطق الغرب والجنوب الليبي، عبر الاتفاق الإيطالي مع حكومة الوفاق الوطني على إبعاد تهديدات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، كما بدا في مذكرة التفاهم التي وقعها الجانبان في فبراير الماضي، وتارة أخرى برعاية مصالحات قبلية في جنوب ليبيا، وتارة ثالثة من خلال التواجد العسكري البحري الإيطالي قبالة طرابلس لمساعدة حرس الحدود الليبي على ضبط الحدود البحرية في مواجهة تدفقات الهجرة. ولدى روما مآرب أخرى أكثر إستراتيجية من اجتذاب الدعم الأميركي، منها توظيف التغلغل الإيطالي في ليبيا إلى منصة لفرض النفوذ في البحر المتوسط كونه يمثل النطاق الحيوي للتحرك الخارجي، وربما تعمد روما في هذا الإطار إلى انتهاز المخاوف العسكرية الأميركية من اتساع الدور الروسي في سواحل البحر المتوسط من الشرق (سوريا) إلى الجنوب (ليبيا)، وما قد يشكله ذلك من تهديد لحلفاء واشنطن في أوروبا وكذلك القواعد الأميركية في صقلية. كما قد يعول الإيطاليون على تأثير العسكريين الأميركيين القلقين من الدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط، وهؤلاء يلعبون دورا أساسيا في صياغة توجهات إدارة ترامب إزاء مناطق الصراعات، ومنها ليبيا، وهو ما يفسر تحركات توماس وولد هاوس قائد القوات الأميركية في أفريقيا “الأفريكوم” التي ترتكز أكثر على مكافحة الجماعات الإرهابية ليس فقط في ليبيا وإنما في منطقة الساحل الأفريقي. بموازاة ذلك، يراهن الإيطاليون على واشنطن لمواجهة التحركات الفرنسية تجاه ليبيا، والتي أخذت خطوات متصاعدة منذ صعود إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم. لكن يبدو أن أقصى ما يمكن أن تتحصل عليه روما من واشنطن، بخلاف التعاون في مكافحة الإرهاب في ليبيا، هو دعم تصورها لبناء صيغة سياسية وعسكرية توازنية بين فرقاء الغرب والشرق في ليبيا تضع في الاعتبار مصالح روما وحلفائها في الداخل، فضلا عن دعم إجراءاتها الأمنية ضد الهجرة والإرهاب في البحر المتوسط، دون إغفال بعد داخلي مؤثر، حيث تسعى التحالفات السياسية الحاكمة في إيطاليا لتوظيف المساندة الأميركية لها، في مواجهة أحزاب اليمين المتطرف التي تتخذ من قضيتي الهجرة وليبيا منصة لانتقاد الحكومة قبل الانتخابات العامة في الشهر القادم. باحث في الشؤون الأفريقيةخالد حنفي
مشاركة :