القاهرة: «الخليج» الحياة القصيرة البائسة للشاعر الأمريكي «إدجار آلان بو» (1809 - 1849) كانت موسومة بالفقر والاضطراب والنشاط الإبداعي المحموم، ومع هذا فإن ذلك الرجل الذي عانى طويلا ووحيداً أصبح بعد موته واحداً من أكبر الأدباء شعبية وتأثيراً وكان بو، قد عين «جيرسوولد» منفذاً لوصيته الأدبية، وبعد رحيله بيومين فقط نشر هذا الوصي مقالاً عن «بو» مليئاً بالأكاذيب، وقام بعد ذلك بتحويل المقال إلى كتاب، ادعى فيه حصوله على خطابات من «بو» قام بنشرها في الكتاب، وكان الأثر السيئ الذي تركه «جريسوولد» كبيراً لدرجة أنه استطاع تشويه صورة «بو» لمدة قرن كامل حتى صدرت أول سيرة موضوعية تحلل حياته بو وتلقي الضوء على أعماله.ظلت شخصية «بو» أسطورية إلى حد كبير، بسبب التطرف الذي لجأ إليه سواء من مهاجميه أم مؤيديه، وقد ساعدت الحياة المتقلبة التي عاشها «بو» على تأكيد هذه السمة الأسطورية، فهو لم يكن شاعراً فقط، بل فيلسوفاً ورساماً وموسيقياً، لقد كان تجسيداً لكل العبقريات الرومانتيكية الممتزجة باعتداد النفس والثقافة الموسوعية الخاصة بكل ما هو قديم، وصفه الشاعر الفرنسي بودلير قائلا: «لقد اجتاز هذا الرجل قمم الفن الوعرة، واكتشف طرقاً وأشكالاً مجهولة، يدهش بها الخيال، ويروي العقول الظامئة للجمال، حيث كان بو يعاني من دافع داخلي ملح للاستطلاع والتنقيب كان يحثه على الدوام إلى التماس خبرات جديدة».لم يكن الإنتاج الشعري لبو غزيرا، لكن نوعيته كانت متميزة من حيث الإغراب والتكثيف والرمز، كما نرى في قصائده، وقد برزت قدراته الفائقة على استخدام الصورة والإيقاع الموحي بالمعنى، كان إحساسه بجماليات الشكل الفني حاداً لدرجة أنه قام بمراجعة قصيدة «الغراب» ست عشرة مرة وقد عمل على تأكيد أن الصوت لا ينفصل أبداً عن المعنى.لم يكن بو يهتم كثيراً بالمضمون الفلسفي، كما فعل ويتمان، بل ركز كل مهاراته في خلق الحالة النفسية التي تحتوي القارئ تماماً وتمضي به على أجنحة الموسيقى إلى عالم ينتمي إلى دنيا الأحلام والرؤى وأحيانا الكوابيس، كان يعتقد أن الشعر قادر على تخليص روح الإنسان من براثن هذه الأرض، وليس الأدب سوى محاولة الإنسان لاستعادة قدرته على فهم و إدراك هذا العالم، من خلال الرؤى والأحلام والأطياف التي تصل به إلى كنه الجمال الأزلي الذي لا يخضع لمعايير الحياة اليومية الجافة، أما التركيز على الوعظ الأخلاقي فليس من مهمة الشاعر، بل إن بو يربأ بالشاعر أن يصور تجارب الحياة اليومية للناس.ولد بو في مدينة بوسطن وأثبت جدارته الدراسية عندما التحق بجامعة فرجينيا التي أحرز فيها تقديرات عالية، لكنه لم يستمر فيها لأكثر من عام، لأنه توقف عن دفع المصاريف، وفي عام 1827 نشر ديوانه الأول تحت اسم مستعار وهو «بقلم بوسطوني»، ولم يكن تجاوز الثامنة عشرة من عمره وفي عام 1829 نشر ديوانه الثاني، ولم تجلب له أشعاره الشهرة إلى أن نشر أول قصة له بعنوان «رسالة وجدت في زجاجة»، وعندما جمع الكثير من قصصه في مجلدين بعنوان «حكايات الخيال والفراغ»، كانت شهرته قد طبقت الآفاق، لكن أحواله الاقتصادية ظلت سيئة وخيم البؤس على رأس الشاعر بموت زوجته عام 1847 بمرض الدرن الخبيث، وكان آنذاك يكتب قصيدته الشهيرة «الغراب»، الذي يرمز إلى خوفه من الموت والجنون.تدهورت صحة بو حتى إنه لم يستطع أن يكتب بيديه، وحين ماتت زوجته عجز عن دفنها لولا أن الجيران تبرعوا بدفع نفقات الدفن، وفي ذلك الصباح كان يرقد في فراشه مصاباً بالحمى، وأخذت الهواجس والرؤى المخيفة تساوره، حتى إنه حاول الانتحار ذات مساء، لكنهم تمكنوا من إنقاذه في اللحظة الأخيرة، لكنه ظل يعيش في عالم الأشباح، شارداً غريباً، واختفى خمسة أيام كاملة، حتى عثرت عليه الشرطة ملقى على الرصيف في مدينة بالتيمور، فتم نقله إلى مصحة، وهو في أشد حالات اضطرابه النفسي ومرضه العقلي، وبعد يوم واحد من دخوله المصحة فارق الحياة، وهو يردد في ألم «يا إلهي أنقذ روحي من هذا العذاب».
مشاركة :