كتب الدكتور عزمي بشارة العربي الفلسطيني الاسرائيلي (سابقاً) والعضو في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، كتاباً بعنوان «الثورة التونسية المجيدة» وحصره في إطار «بنية ثورة وصيروتها من خلال يومياتها» محاولاً انتحال عنوان تقليدي سطرته كل الاحزاب الشيوعية دون استثناء، والتي ظلت في اللاوعي الكامن لرجل كان ينتمي باعجاب الشاب الطري لثورة اكتوبر المجيدة. رافقت مفردة «المجيدة!» الثورة الروسية في كل الادبيات حتى لحظة الانهيار، غير ان انتحال بشارة مقولة المجيدة للثورة التونسية كما هو الروسية استوقفنا تساؤل مشروع ما هو في تلك الثورة «المجيدة» في تونس لكي تصبح فعلاً مجيدة بحجم العنوان السائد والمكرر للثورة البلشفية، التي كانت مجيدة من، حيث تأثيرها العالمي بولادة نظام سياسي جديد في النظام الرأسمالي العالمي وانقسام العالم الى نظامين في التاريخ، مجد الثورة الروسية المختلفة في مضمونها واهدافها عن الثورة الفرنسية العظمى، إنها لأول مرة في التاريخ تحكم الدولة والمجتمع الطبقة العاملة، وتحقق نظاماً اجتماعياً مختلفاً اصبح مرتكزاً عالمياً لحركات التحرر الوطني الناهضة في العالم، فيما الثورة في تونس حالها حال ثورات كثيرة تتكرر وتحدث في أصقاع عدة في العالم بما فيها الوطن العربي. وما حدث من تأثيرات سياسية وشعبية في مصر لم تكن وحدها بسبب ما يدور في شوارع تونس، فهناك اسباب موضوعية في المجتمع المصري، واندلاع الشرارات وحدها لا تصنع تلقائياً ثورات وانتفاضات لمجرد انها حدثت في هذا البلد المجاور أو ذاك، فلكل انتفاضة او ثورة قوانينها الداخلية المجتمعية، أما العنصر الخارجي فتأثيره ليس إلا تأثير ثانوي إن لم نقل هامشي. والثورات لا تقاس بما فجرته من احداث وطرحته من مهمات واهداف ومطالب، وانما تقاس بالمآلات التي تنتهي اليها تلك الثورات ومنحنى المسارات التي توقفت عندها، وما رأيناه في مصر مختلف تماما عما حدث في تونس، حتى في كيفية رحيل رأس هرم السلطة في البلدين حسني مبارك وزين العابدين، وصعود الاخوان لرئاسة الحكومة وإزاحتها بانقلاب عسكري، وانتهاء الثورة في منتصف الطريق وتجمدها حتى إشعار آخر، وبات الجيش في تونس خلف الكواليس فيما صعد الجيش المصري المسرح التاريخي، وبدت تونس هشة من الداخل بملابسها الديمقراطية الممزقة فيما الديمقراطية المصرية تفتش عن ذاتها بعكازين يحمل ثقل معارضة خطيرة ووضع اقتصادي صعب وتراكمات في كل الجوانب تنخر المجتمع والاجهزة المصرية بالفساد. دون ان ننسى ان الصورة في تونس مجرد اصغر حجماً من حيث دور العسكر والفساد وتلاعب الثورة المضادة باقنعة متعددة. برهنت التجربتان المصرية والتونسية انهما مجرد «ثورة سياسية» اطاحت بقمة ورأس النظام ولكن النظام بكل تشعاباته واجهزته ظلت في البلدين كما هما مع «ترقيع» وتحسينات وتعديلات دستورية وإصلاحات ادارية وتنقلات في المناصب والمراكز للوجوه القديمة. والأكثر من ذلك أن مهمات الثورة «الاجتماعية» كمرحلة تالية (ضرورية) ومهمة لانتشال الشعب من أهم الاسباب التي كانت وراء الاستياء والسخط وولادة مشروع ثورة «هائجة» تاهت بين الامواج، فما قامت من أجله هو الخبز والعدالة الاجتماعية ومعالجة البطالة والتنمية، لكنها ظلت تدور في حلقات بنية النظام وكواليسه وحواراته، واكتشاف الثورة ان الصراع والتغيير ليس نزهة سياسية كما تخيلت، فهناك نظام عالمي وقوى اقليمية وحدها من تتحكم في خيوط كل بلد ومجتمع يصعب الفكاك منه بسهولة متخيلة. نترك جانباً التجربة المصرية وربيعها الضائع، باعتباره موضوعاً مستقلاً وبحاجة لوقفة اخرى، ونسلط الضوء على تلك السنوات السبع العجاف التي عاشها الشعب التونسي بعد رحيل او هروب زين العابدين وهل حقق الرؤساء الذين جاؤوا من بعده والحكومة المترهلة بالتسويات والمحاصصات تحت سقف الديمقراطية منجزا مهما لكل شعارات الثورة واحلامها، والتي مات من اجلها البوعزيزي وغيره؟ هل بالضرورة ان تنتج المرحلة الجديدة ايقونة محترقة كالبوعزيزي لكي ينفجر الشعب بشكل أعنف مما كان ام يترك غضبه يتسرب وينساب في اقنية الديمقراطية والمجتمع المدني العلني المكتفي بالحريات السياسية والدستورية، فيما الظواهر المجتمعية تغلي في القاع وتتسع وتكبر وتنفجر كما حدث مؤخرًا في شوارع تونس، ويعود الناس للحوارات الساخنة والانفعالات السياسية والغضب كون الثورة «المجيدة!» كما قال بشارة، لم تنتشله من جذوره وعلته الفعلية، ولم يتم انقاذ الثورة «المنكوبة» من وهدتها وتعثرها، فما زالت محركات الثورة وسخطها ووقود الثورة ومشاعلها كامنة تارة تحت سطح المجتمع وتارة فوق قشرته الواهية الحبلى بأشكال جديدة من المواجهات الشعبية والحراك الشعبي الذي سيكون مختلفاً عن ثورة عام 2011، نستذكر مرة اخرى قول لينين «لنعجل أيها الاصدقاء في إنهاء الثورة: فمن يفرط باطالة الثورة لا يقطف ثمارها» والتوانسة حتى الآن لم يقطفوا ثمارهم فيما ظلت عربة البوعزيزي ولهيبه في الذاكرة التاريخية.
مشاركة :