فاجأت الثورة التونسية في منجزها الثوري الشارع العربي، غير أنها لا تزال في منتصف الطريق لاستكمال مشروعها في كنس اصطبلات اوجياس، وتهديم كل اسس النظام القديم واستبداله بنظام جديد مختلف، تكون فيه حركة الجماهير قد قطعت علاقتها بكل مكونات ذلك القديم القابل لاشعال الثورة المضادة في لحظة من غفلة الثورة عن اعدائها الحقيقيين. من مقالتنا تونس وقراءة في مزاج الشارع العربي / جريدة الايام 6 و8 فبراير 2011 والمنشور في كتاب البحرين الربيع الرمادي. في زمن الثورات لبلدان في حركة التحرر الوطني خلال حقبة الثنائية القطبية، كانت شعوب تلك الثورات عند محاصرتها من الرأسمال العالمي ومؤسسته المهيمنة كالبنك الدولي والصندوق الدولي وغيرها، تجد دعما من معسكر اشتراكي كامل يسانده، دول كانت في ركب دول عدم الانحياز. تلك القوى كسرت حلقة الضغط والحصار الاقتصادي والسياسي واحيانًا العسكري كما حدث مع كوبا ومصر وفيتنام والصين ويوغسلافيا وقبرص، كون علاقات التوازن بين القوى يومها مؤثرة وضرورية. ومع اختلال هذه القوى وغيابها من الساحة الدولية انفردت القوى العظمى بعد الانهيار في قدرتها على خنق الثورات والدول التي تتوق لسيادتها واستكمال برامجها التنموية الوطنية دون ضغوطات او إملاءات عالمية واقليمية. واجهت تونس مع ثورتها الفتية اسئلة ما بعد رحيل زين العابدين واي نظام جديد ودولة ستكون قادرة على انتشال اقتصادها المتعثر وتضخم حالة البطالة وتراجع تنمية البلاد وتنويع مصادر دخلها. كيف تعالج وتمتص البطالة وسط جيل شاب عاطل عن العمل ومتعلم؟ وهم وقود كل انفجار وسخط؟ كيف ستحل تونس مسألة الارض والمشروع الاصلاحي الزراعي في عالم حداثي بتقنية ما عادت هناك اعذار بحجة قلة المياه او المواد والتشغيل، فالتصنيع الزراعي والمشاريع الصغيرة والمتوسطة في الريف والمدينة قادرة على امتصاص النسبة العالية من القوة العاملة الشابة، بشرط توفير الراسمال الموظف في تلك المشاريع بشفافية وعدالة. كما ان اقتصاد المعرفة والخدمات والسياحة قطاعات جديرة باستنهاض التنمية والاقتصاد التونسي، كما ان المشاريع الاقتصادية الانتاجية تقدم جزءًا اساسيًا من اسئلة البطالة والتنمية، الى جانب المشاريع المنجمية وتطوير الصناعات الخفيفة وتوطينها في تونس لتوفر العمالة المتعلمة. البحث عن مشاريع تكامل مع دول الجوار العربي، كل ذلك ممكن التحقيق ودراسة تجارب دول كيف استطاعت التلاؤم مع اقتصاد العولمة وتجسير هوة التفاوت الاجتماعي بين طبقات المجتمع حتى في اطار النظام العالمي الجديد. ومن المحزن ان دول صحراوية كالامارات والمملكة وغيرها استزرعت أراضي قاحلة وصارت هناك في الاسواق سلع زراعية رخيصة في وقت لا تستطيع تونس توفير تلك السلع وتتركها عرضة للغلاء في ظل ظروف معاشية ومعيشية صعبة، فالاختلال بين الاجور والاسعار وبين التنمية والانتاج والبطالة ظواهر ينبغي معالجتها بعناية، كما ان الاقتراض يوفر فرصًا للتنمية بشرط ان يكون المجتمع قادرا على حماية نفسه من الشروط المجحفة من الدعومات الخارجية ومن قدرته على توفير فائض من دخله الوطني للتسديد. المشاريع الكبرى وخطط التنمية تحتاج لعقود لتحقيقها واخراج المجتمع مع مشروع الثورة نحو التحسين الحقيقي لمستوى معيشة الشعب، والمشاركة المجتمعية الفعلية مع الشفافية بين طبقات المجتمع بالنقاش السلمي المفتوح والمراقبة النزيهة في برلمان منتخب حر. قد تكون قبرص ومالطة كجزيرتين صغيرتين في المتوسط، بالامكان في استلهام تجربتهما التنموية. ولكي تصبح الثورة التونسية متكاملة بين مرحلتها السياسية والاقتصادية، بين سبع سنوات عجاف توقفت فيها عجلة التنمية بصورة مرضية مما ولّد من جديد الانفجار الاخير فيها، فنظام سياسي تسعى رموزه وشخصياته السياسية، على التركيز في كيفية تقاسم الثروة فيما بينها، وتعزز روح التوريث، مثل ذلك النظام لن يقدم حلولًا ولا اجابات على صوت الغضب الشاب الباحث عن مستقبل غامض ومجهول. الثورات والانتفاضات تتكرر دون توقف متى ما تعمق الهامش الواسع للثراء للأقلية مع الهامش الواسع من الفاقة بين الاغلبية الواسعة من السكان، عندها يعود الطوفان دون ان نحتاج للتعجب والاندهاش من اين خرج الشعب ساخطا فجأة، فالظواهر الاجتماعية ليست بسحر ولا تحتاج لساحر وكهنة يقدمون لها الصلوات المباركة، فالجوع والفقر حله موجود في الارض وليس السماء.
مشاركة :