ما زال الجدل دائرا منذ عدة سنوات حول ما إذا كانت الصحافة الورقية في طريقها إلى الزوال نتيجة عدة اعتبارات، منها تلك المتعلقة بتزايد المد الإلكتروني على جميع المستويات، ومنها المتعلقة بتناقص معدلات القراءة لدى الشباب الذين وجدوا في ضالتهم المعلوماتية مصادر أقرب لهم ولطبيعة حياتهم اليومية. وكمتابع لهذا الشأن لأكثر من 20 عاما، سأحاول أن أطرح بعض الحلول التي أعتقد أنها جديرة بالمناقشة من المهتمين في قضية إعادة إنعاش الصحف الورقية، وضمان بقائها كمؤسسات إعلامية. وعليه، فإني أرى أنه لا بد من أن يتم تغيير عقلية البناء الداخلي في الصحيفة من كونها وسيلة إعلام تنشر أخبارا ومقالات عبر الوسيلة الورقية إلى عقلية المؤسسة الصحفية التي تصنع محتوى إعلاميا تقوم بتوزيعه عبر عدة وسائل، منها الورقية، ومنها الإلكترونية، ومنها الهاتف الجوال، بحيث تكمل كل واحدة منها الأخرى وتتنافس فيما بينها في السبق والتميز الخبري. كما أنه لا بد من أن يكون تبويب الصحيفة الورقية مبنيا على نتائج بحوث تسويقية، توضح ما الاهتمامات والمجالات التي يرغب فيها القارئ في الأساس، وليس ما يرغب فيه المعلن، كما هو الحال في كثير من الصحف، أو فلسفة رئيس التحرير الفكرية، أو المخرج الفني الإبداعية. في سوق تنافسية يتحتم على من يريد التميز أن يخلق لنفسه قطاعا يميزه عن غيره، لا أن يحاول أن يكسب الجميع فيجد نفسه ينافس الجميع ولكنه يخسر من الجميع، لأن كل المنافسين يتميزون في حقولهم المتخصصة، لذلك فالتخصص في تقديري هو من أهم أسباب النجاح والصمود، كما لا بد من تدريب القائمين على تلك الصحف على أفضل الأساليب في الإدارة والتخطيط والتسويق، إذ إن كثيرا من الصحف التي تواجه صعوبات مالية وإدارية، يتضح أن قياداتها ليست لديها بالضرورة معرفة أو قدرة أو دراية في أسس إدارة فرق العمل، لا التعاطي مع القوائم المالية ولا الأسس العلمية لتقييم إنتاجية وأداء العاملين. هناك أصوات تدعو ولأسباب متنوعة إلى إعادة هيكلية الخريطة الإعلامية المحلية بطريقة جذرية، فمثلا يرى بعضه -وأنا منهم- بأن هناك صحفا لا بد أن تندمج تحت إطار تجاري ومؤسساتي واحد، وذلك بهدف خلق صحيفة إقليمية واحدة ذات إمكانات قوية من ناحية القدرات البشرية والمالية والتسويقية، لأن وجود المنافسة بين أكثر من صحيفة، خصوصا في المناطق ذات القدرة الشرائية المتوسطة، ستجعل من المنافسة أمرا يصل إلى درجة الصراع بهدف البقاء. كما أن هناك من يدعو -ولست ممن يعارض هذه الفكرة- إلى أن تدخل المؤسسات الخيرية في تملك وإدارة الصحف، على اعتبار أن الصحف وصناعة الخبر يهدفان أساسا إلى الارتقاء بالوطن والمواطن، وهي أهداف نبيلة تعمل على تحقيقها، كذلك مؤسسات المجتمع المدني، والتي منها المؤسسات الخيرية. من المهم أن تكون هناك مرجعية محايدة ومستقلة للتحقق من الانتشار، تعمل على وضع الإحصاءات والدراسات والأرقام الحقيقة التي ستساعد شركات الإعلان في وضع خططها الإعلانية لعملائها، والحصول بالتالي على أعلى عائد لاستثمارهم الإعلاني، بدلا من الاستمرار في إدارة وتوزيع ميزانيات إعلانية ضخمة في بيئة تخطيطية يشوبها فساد كبير، أثّر سلبا على مستوى الاستفادة المأمولة من الإعلان في الصحف الورقية، إذ أصبحت تلك الدراسات البحثية تحكمها أجندات شخصية ومصالح فردية، خدمة لتكتلات متنوعة المرجعية. قلنا وما زلنا نقول، إنه لا بد من تأسيس تكتل سعودي لشراء الورق من المصنعين العالميين، إذ إن الورق الآن يباع للصحف والمؤسسات الإعلامية بأسعار عالية جدا، لأن صناعة ورق الصحف عالميا تسيطر عليها مجموعة محددة من المصنّعين الذين يُمْلُون شروطهم على المشتري الفردي، إلى جانب أهمية أن تقوم الصحف بإعادة تدوير محتواها ليعاد بيعه لأكثر من مصدر إعلامي، وبأكثر من لغة، فبيع الحقوق يعدّ من أهم مصادر الدخل لكثير من الصحف العالمية، في أجواء تضمن تطبيق تشريعات حماية الحقوق. رأس المال الحقيقي لأي مؤسسة إعلامية أو صحيفة ليست الوسيلة ذاتها، بل المحتوى الذي تبثه ويستهلكه المتلقي. بعبارة أخرى، نقول إن القارئ سيبحث عن المحتوى ولن يكترث كثيرا بالوسيلة، فكلما أصبح المحتوى هو بضاعة المؤسسات الإعلامية، كلما كانت أقرب إلى فهم الزمان والمكان ومتطلبات السوق والظروف، وبالتالي كانت أقرب إلى ضمان الاستمرار والبقاء.
مشاركة :