"هل يحتاج غالي شكري إلى تقديم للقارئ؟ وهل تحتاج كتاباته إلى تقديم؟ لقد قدمت نفسها، وتقدمت على كتابات أخرى كثيرة، لكننا نحن وما نعاني نحتاج إلى تقديم، فمصر ونحن، الوطن ومستقبله، كل ما أبدعه العقل المصري، من فن وعلم ومعرفة وحضارة، كل ما أنتجه القلم المصري من أحرف وكتابة، بل العقل المصري نفسه مهدد بالإزالة، والحواجز التي تتراكم حوله وفوقه توشك أن تحركه إمكانية البقاء". هكذا كتب المفكر الراحل د. رفعت السعيد في تقديمه لكتاب "ثقافة النظام العشوائي.. تكفير العقل وعقل التكفير" لمؤلفه د. غالي شكري، والذي أعادت إصداره الهيئة المصرية العامة للكتاب. يقول غالي شكري في مقدمة كتابه: من الكلمات التي استهلكت لدرجة الابتذال في حياتنا الفكرية والإعلامية كلمة (أزمة)، فلأننا نستعملها في غير مكانها أغلب الوقت كادت تفقد معناها الحقيقي. ونحن نستطيع أن نتابع ثلاث أزمات كبرى في تاريخ مصر المعاصرة، تبدأ أولاها بمنتصف هذا القرن عشية الثورة الناصرية وغداتها، أما الأزمة الثانية فقد بدأت بهزيمة 1967، وكانت إعلاناً مدوياً، بالرغم من الأسباب الخارجية عن إخفاق النظام الثوري في معالجات الإشكاليات التي جاء لحلها، أما الأزمة الثالثة انتقلت تدريجياً بهزيمة 1967 إلى مشارف نظام جديد يكاد يكون نقيضاً للنظام الثوري السابق، وقد صاحبت هذا الانتقال حروب وطنية وأخرى إقليمية، وازدهار للنفط العربي أفضى إلى هجرات جماعية إلى منابعه وعودة إلى الوطن ببعض ثرواته وأفكاره وقيمه. وتحت عنوان "المكتوب والمكبوت في خطاب العنف المعاصر"، كتب شكري: ليس تكفير الآخرين حيلة جديدة للقمع، بل إنه الحيلة التقليدية في كل زمان ومكان، منذ قديم الأزل و"التكفير" سلاح وسلعة: سلاح ضد كل من يفكر في التمرد على السائد والمعتمد والمعترف به، وسلعة جاهزة لكل من يطلبها ضد معارضيه، وكان الرسل والأنبياء أكبر من اتهموا بالكفر. ولم يختلف التاريخ في العصور القديمة إلى عصرنا الراهن، فقد ظل التكفير خلاصة العناصر التالية: الكلام باسم إحدى العقائد الدينية أو السياسية الراسخة في الضمير العام، بحيث يصبح المساس بها خروجاً على "روح الشعب" أو "ضمير الأمة". والربط بين هذه العقيدة والسلطة تعميم للعقيدة على "المصلحة العامة"، كذلك التوحد بين العقيد والوطن، وتبع ذلك غالباً في عصور الضعف والتردي الأقرب إلى الانحطاط، بحيث يصبح التغني بالعقيدة تعويضاً مجزياً عن احتدام الأزمة العاتية في مفترق الطرق. • الخطاب الاستهلاكي والإرهاب أما عن الخطاب الاستهلاكي، فيرجع غالي شكري النشأة الأولى للخطاب الاستهلاكي لتلك البيئة قبل الرأسمالية وما قبل النقود، أي حين كان يتم التبادل السلعي بأسلوب المقايضة، في ذلك الوقت كان الخطاب استهلاكياً بدائياً على طريقة "من اليد إلى الفم". ولم يعرف الخطاب القديم فكرة الإرهاب الحديث، لأنها اقتصرت على جانب واحد هو جانب كبار الإقطاعيين من الفرسان والنبلاء، أما الإرهاب الحديث فقد نشأ برفقة التحولات الراديكالية في العصور الحديثة لفكرة الدولة، سواء بواسطة الثورة الفرنسية أو بواسطة الثورة الروسية، أو بواسطة ولاية محمد علي باشا على السلطة في مصر 1805. كان هذا أول بدايات إرهاب الدولة الذي خفف من غلوائه ليبرالية الغرب الاقتصادية والسياسية، وشدد من قبضته شمولية الستالينية في الشرق، وضاعف من وحشيته نظم الحكم العثماني في ولايات الإمبراطورية ومن بينها مصر. ويرى شكري، أن الخطاب الاستهلاكي في مصر كان عارياً من ورقة التوت، كان الأوروبيون في "عصر حديث" سواء بالإنتاج أو بالتراكم، بالدولة القومية أو بالدولة الاشتراكية، أما في بلادنا فقد كنا نعيش عصراً ممتداً من العصور الوسطى بأغلب ملامحها: إمبراطورية تتفكك، تعتمد مواردها على استنزاف الولايات التابعة الفقيرة المقهورة المتخلفة. وقد أتيح لمصر أحد الولاة التاريخيين الذي أراد الاستقلال بها عن الإمبراطورية المتداعية الأركان، فقامت نهضتها خلال المقاومة على جبهتين: من أجل الشرعية ومن أجل التحديث، الاستقلال في إطار الشرعية الدينية، وليست الخلافة بالضرورة مرادفاً وتجسيداً لها، وقطع المسافة بين التخلف والتقدم، وأوروبا بالضرورة أحد مصادره سواء في نظم الإدارة والتجارة والحرب والتعليم، أو أي الأفكار التي تدور حول إعمال العقل. • وجوه وأقنعة وجاء القسم الثالث من الكتاب تحت عنوان "وجوه وأقنعة"، يقول غالي شكري: كانت الأجواء المصرية منذ بداية السبعينيات قد تلبدت بغيوم التطرف والإرهاب الذي افتتح الثمانينيات باغتيال الرئيس السادات، وفي ظل الضغط العاتي لهذا المناخ كان خالد محمد خالد قد أصدر كتابه عن الدين والدولة الذي تراجع فيه خطوات عن مبادئه الأولى، ولكنه كتاب وحيد لم يعمل منه الرجل تجارة أو شعاراً، بحيث عاد في النصف الآخر من الثمانينيات ليصدر كتابه المهم "دفاع عن الديمقراطية"، ويعود فيه إلى سيرته الأولى. أما محمد الغزالي فقد انصرف إلى موقف مزدوج: أحد الوجهين هو المؤلفات ذات الصبغة التجديدية والصبغة العصرية والأحاديث التليفزيونية التي يدعو فيها إلى الهداية، هذا الوجه هو الذي أعطى الرجل سمة الاعتدال، ولكن في كتابه "من هنا نعلم" كان الغزالي صادقاً مع نفسه إلى أبعد الحدود حتى أفتى غداة اغتيال فرج فودة بأن الشباب نفذوا الحد مع المرتد، وكان من المستحيل أن يتناقض مع فتواه الأولى حين طلب إليه الدفاع عن أولئك الشباب سماع شهادته، فجاءت فتواه الثانية تأييداً للأولى. ويقول المؤلف: إنني شخصياً ممن يتحفظون على مصطلح التطرف، لأنه يفترض في المقابل مصطلح الاعتدال، وحتى الإرهاب فهو توصيف خارجي لإحدى الوسائل، وهي العنف، أما الغاية فهي الدولة الدينية وعنوانها الإسلام السياسي.. لا اعتدال فيه ولا تطرف، وإنما نظام للحكم الشمولي تحت راية الدين، وهي الراية التي يقف تحتها الجميع: من حارس البوابة إلى "أمير المؤمنين". وفي الختام يشير المؤلف إلى خطاب مفتوح إلى عمر عبدالرحمن، قائلاً: ولم تكن بحاجة إلى البصر لتعرف أن نور العقل يهدي من يشاء، فارتويت، وارتويت، حتى فاض النهر، كنت تأوي إلى ينبوع الحكمة وتلتذ بنهم المعرفة وتصقلك روح العلم، وكنت من بين ما تعلمت أن الإسلام شيء، وأن تاريخ المسلمين شيء آخر، وأن تأويل الإسلام ميراث بشري يحق فيه الاجتهاد كأي فكر بشري، لذلك سالت الدماء في عصور، وازدهرت الحضارة في عصور أخرى. لم ينج من بحر الدماء بعض الخلفاء الراشدين أنفسهم، وهلك في المذابح خلق كثيرون من المسلمين، في الصراع بين الفرق والمذاهب كانت السياسة هناك والمصالح تلعب دور البطولة، كان النص واحداً والتأويلات عديدة تعدد المصالح والسياسات والسلاطين، وكل يرى أنه على صواب مطلق والآخرون على خطأ مبين، الشيعة والمعتزلة والقرامطة وثورة الزنج، وكان ما ندعوه الآن بتوازن القوى هو الذي يحسم الأوضاع والمواقف على أسنة الرماح والحراب. (خدمة وكالة الصحافة العربية).
مشاركة :