خمس عواصم مر عليها وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، في جولته الأخيرة، وكان لافتاً أنه لم يصل تل أبيب لأن أبواب رام الله لم تعد مفتوحة أمام المسؤولين الأميركيين، على أثر السياسة الرعناء المتطرفة التي إتخذها الرئيس دونالد ترامب، بجعل القدس عاصمة للمستعمرة الإسرائيلية، وما يترتب على ذلك من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وتجميد الدعم الأميركي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين “الأونروا”، إضافة إلى سلسلة إجراءات عقابية ضد منظمة التحرير وإغلاق مكتبها في واشنطن، وضد الصندوق القومي، وضد عائلات الأسرى والمعتقلين، في إطار سياسة منهجية أميركية جديدة تهدف إلى شطب قضيتي القدس واللاجئين عن طاولة المفاوضات، في محاولة لإضعاف الدور الفلسطيني وشل قدراته، رداً على هزائم أميركا في مجلس الأمن والجمعية العامة واليونسكو وغيرها، أمام فلسطين ومن معها من العرب والمسلمين والمسيحيين وأصدقاء حقوق الشعب الفلسطيني، الذين صوتوا ضد واشنطن وسياسة ترامب. وزير الخارجية الأميركي، ليس صاحب قرار بشأن السياسة الأميركية نحو العالم العربي، فيما يخص فلسطين والمشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي، بل هو ملف مقتصر على إهتمام البيت الأبيض، والعاملين مع الرئيس برئاسة الصهيوني المتطرف جيرارد كوشنير، ولهذا يتم طرح السؤال: إذا لم يكن لتيلرسون علاقة بالموضوع الفلسطيني وتداعياته فلماذا يقوم بهذه الجولة على بعض عواصم العالم العربي وتركيا ؟؟.. والجواب الجوهري يكمن في دوافع هذه الزيارة التي هدفت إلى سعي واشنطن لإحتواء الأزمات وإمتصاص حالة الإخفاق التي تواجهها السياسة الأميركية في منطقتنا العربية حتى تركيا. في زيارتيه للقاهرة وعمان، لم يجد الوزير الأميركي قبولاً لسياسة ترامب حول القدس واللاجئين وتحميل الفلسطينيين فشل المفاوضات، ولذلك تصرف مع القاهرة وعمان، بليونة وإعطاء تفسير لمضامين ترامب وإعلانه وتوقيعه العلني عن القدس وتدويرها، وعلى خلاف تصريحات ترامب وسفيرته نيك هيلي المعلنة بمعاقبة الدول التي صوتت ضد سياسة الولايات المتحدة بشأن القدس وتعريتها في المؤسسات الدولية، على خلاف تهديدات الرئيس وسفيرته، وقّع وزير الخارجية الأميركي في عمان مذكرة التفاهم المشتركة مع الأردن بما حوت: رفع قيمة دعم واشنطن لعمان من مليار دولار سنوياً إلى مليار و 275 مليون دولار، وبدلاً من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، إلتزاماً أميركياً بالحفاظ على أمن الأردن وإستقراره وتعويضاً لخسائره في إحتضان اللاجئين السوريين والعراقيين، وإسهاماته في مقاومة الإرهاب والعمل على هزيمته. الأردن شكل رأس الحربة السياسية في رفض القرار الأميركي الإسرائيلي بشأن القدس، ومع ذلك لم تتردد واشنطن في الإنحناء أمام إندفاع الموقف الأردني وتماسكه ومنطقه في إعطاء الأولوية للحفاظ على مصالحه الوطنية والقومية والدينية نحو القدس وفلسطين، بإعتبار ذلك جزءًا جوهريًا من أمنه الوطني، الحصيلة التي جعلت الموقف الأميركي يتعامل مع الموقف الأردني بالإحتواء بعيدًا عن التصادم أو فرض العقوبات، وهو مثيل للسياسة الأميركية في تعاملها مع مصر، ذلك أن البلدين يلتزمان بمعاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة، وأن الولايات المتحدة تدفع ثمن تمسك القاهرة وعمان بمعاهدتي السلام، والحفاظ عليهما، رغم أن البلدين لا يتفقان مع السياسة الأميركية التي مازالت أسيرة للسياسات التوسعية الإستعمارية الإسرائيلية. زيارة ريكس تيلرسون لبعض العواصم العربية وتركيا جاءت في سياق المحاولات الأميركية لإحتواء الأزمات مع أصدقائها المقربين في المنطقة: القاهرة وعمان وبيروت وأنقرة، ومثلما أنهى زيارتي عمله للقاهرة وعمان وخرج منهما بدون تطابق، فقد أنهى زيارة عمله إلى بيروت بعد التفاهم الذي وقع بين رؤساء المثلث اللبناني عون والحريري وبري، والذين إتحدوا على رفض إجراءات العدو الإسرائيلي والتصدي لها في مسألتين: الأولى: رفض بناء الجدار على الحدود الفلسطينية اللبنانية، والثانية: التصدي للأطماع الإستعمارية الإسرائيلية للإستيلاء على حقل الغاز في البحر المتوسط مقابل المياه الإقليمية اللبنانية، وبذلك عبر لبنان عن شجاعته، رغم ضعفه، معتمدًا على تماسك جبهته الداخلية التي عبر عنها الرؤساء اللبنانيين الثلاثة، وإستعدادات الجيش اللبناني، وبسالة مقاتلي حزب الله وقدراتهم. زيارة الوزير الأميركي لأنقرة سعت لإحتواء الأزمة مع تركيا عضو الحلف الأطلسي، فالخلاف الأميركي التركي حول المسألة الكردية عميق يعكس العداء التركي لأي محاولات إستقلالية للكرد في العراق وسوريا وإمتدادهم الذي يشكل خطرًا على وجود تركيا ووحدتها، بينما تلين سياسة واشنطن بإتجاه التعاطف مع القضية الكردية ليس حبًا بالكرد وحقهم في التعبير عن قوميتهم، بل إنعكاسًا للسياسة الإسرائيلية التي تتلهف لتمزيق العراق وسوريا وصولاً إلى تمزيق تركيا وإيران كبلدين مسلمين، ليبقى المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي هو الأقوى أمام ضعف الآخرين العرب وتركيا وإيران، فتسعى تل أبيب لتدميرهم وإضعافهم وتغييب أدوارهم. زيارة تيلرسون هدفت إلى تحقيق غرضين: أولهما إحتواء الأصدقاء الذين يختلفون مع واشنطن، وثانيهما حماية المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي، بعد أن فقدت واشنطن قوة إندفاعها في منطقتنا وتفردها في إدارة السياسات العليا مع أصدقائها في المنطقة، فقد أخفقت السياسات الأميركية بعد هزيمتها المزدوجة في أفغانستان والعراق وتحملت ديونًا باهظة أفقدتها قدراتها المتفوقة أمام قوة الحضور الروسي والإيراني والنتائج التي حققوها في هزيمة داعش والقاعدة وكل من له صلة بهما، وكذلك في دعمهما لسوريا التي صمدت أمام التحالف الأميركي الداعم للمعارضة السورية المسلحة التي إعترف مدير المخابرات المركزية الأميركية أنها فشلت في إسقاط النظام ولم يعد أي رهان عليها سوى إستمرارية إستنزاف النظام السوري فقط بفعل ما يتوفر للمعارضة من دعم مالي وتسليحي، ولكنها فقدت بريقها وقدرتها على تحقيق نجاحات على النظام الذي بات أكثر تماسكًا وقوة ومبادرة من قبل. في ظل هذه المعطيات التي تُوجت بسقوط الطائرة الأميركية الإسرائيلية على يد قوات الدفاع السوري، عاكسة التماسك السائد في سوريا مما يؤكد أن ثمة متغيرات حاضرة في هذا الجزء من العالم العربي، وإن لم ينتصر، ولكنه لم يهزم، وأن التحالف الأميركي الإسرائيلي وأدواتهم ومن يتبعهم ومن يسير في مخططاتهم، وإن لم يُهزم بعد، فقد تحول إلى مشهد عار فاقد لأي شرعية ولأي منطق ولأية ذرائع أمام شعوب العالم العربي الأكثر يقظة في مواجهة سياسات العدو الإسرائيلي ومن يتحالف معه. h.faraneh@yahoo.com * كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية.
مشاركة :