قصة من الماضي تحكي الحاضر في برلين السينمائيخارج أفلام المسابقة الرسمية التي تتطلع إليها أنظار الجميع الذين تتنافس أفلامهم على اقتناص جائزة “الدب الذهبي” الشهيرة، جاء فيلم “المكتبة” The Bookshop للمخرجة الإسبانية إيزابيه كويكست التي سبق أن أفتتح مهرجان برلين بفيلمها “لا أحد يريد أن يأتي الليل” في دورة عام 2015، وكويكست معروفة بأنها إلى جانب أفلامها الإسبانية، وهي قليلة، تخرج الأفلام الناطقة باللغة الإنكليزية، التي تستعين فيها بممثلين من بريطانيا والولايات المتحدة، وتحصل بالتالي على تمويل خارجي لهذه الأفلام كما تضمن عرضها في السوق الأميركية الأكبر في العالم.العرب أمير العمري [نُشر في 2018/02/20، العدد: 10906، ص(16)]أرستقراطية مقيتة برلين – في فيلمها الجديد “المكتبة” أو بتعبير أدق “دكان بيع الكتب” (لا مكتبة الاطلاع على الكتب) ربما كان من الأفضل للمخرجة الإسبانية إيزابيه كويكست (57 عاما) التي كتبت سيناريو فيلمها إلى جانب إخراجه أن تطلق عليه “بائعة الكتب”، فهو الأقرب كثيرا إلى روح الفيلم وموضوعه الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي الـ68. لكن كويكست أرادت في ما يبدو أن تحافظ على العنوان الأصلي لرواية الكاتبة الإنكليزية بنيلوب فيتنزجيرالد (1916-2000)Penelope Fitzgerald التي تضمنها جانبا يسيرا من سيرتها الذاتية. في الزمن المضارع الرواية صدرت عام 1978، ولكنها أقرب إلى روح أعمال إميلي برونتي “مرتفعات ويذرنغ” وجين أوستن “حديقة مانسفيلد”، رغم أن أحداثها تدور في الخمسينات، لكنها تروى هنا من خلال راوية تحكي بصوتها في الزمن المضارع أي من واقع اليوم، ما خبرته وشهدته في تلك الفترة عندما كانت طفلة صغيرة. صوت الرواية هو صوت الممثلة الشهيرة جولي كريستي (تجاوزت الآن 77 عاما)، واختيارها كراوية للأحداث تعلق عليها وتربط في ما بينها، له مغزى سيأتي ذكره في ما بعد. وأتيح للمخرجة الإسبانية الحصول على تمويل من أيرلندا وبريطانيا وإسبانيا، والأهم أنها عثرت على مجموعة من الممثلين الذين صنعوا معها هذا العمل السينمائي الرصين الذي قد يراه البعض عملا تقليديا من تلك الأعمال السينمائية الكثيرة التي تعتمد على الأدب، أو على نحو أكثر دقة، على تحويل رواية أدبية إلى لغة السينما، مع ما يقتضيه هذا من القيام ببعض التعديلات التي لا مفر منها، لكن الواضح من أول مشاهد الفيلم أننا أمام عمل يحافظ كثيرا على الأصل الأدبي، ولا يتطلع إلى إدخال شخصيات أو تعديلات واضحة على الأحداث، وهو عمل يبدو تقليديا في الظاهر وإن كان يحمل رسالة متقدمة كثيرا. وكويكست لا تحاول -من خلال السياق الذي اختارته للسرد- أن تبتعد عن الطبيعة الرومانسية المتّشحة ببعض الغموض، خاصة في ما يتعلق بولع الشخصية الرئيسية بالكتب. وبطلة الفيلم هي فلورنس غرين، امرأة في منتصف الأربعينات، تتمتع بجمال واضح مع مسحة من الحزن النبيل الذي يضفي عليها جمالا فوق جمالها، وهي أرملة كانت قد تزوجت عام 1940، لكنها فقدت زوجها في الحرب العالمية بعد ستة أشهر فقط من زواجهما، وقد مضت الآن 16 عاما على وفاته في الحرب. هنا ربما نلمح بعض الوشائج التي تربط بين هذه الشخصية وشخصية المؤلفة فيتزجيرالد، فهي أيضا تزوجت من زوجها عام 1940 وذهب هو إلى الحرب، لكنه لم يقتل، بل عاد وأصبح مدمنا على الخمر، ثم اتجه إلى الكتابة أيضا دون نجاح يذكر، فاكتفى بمساعدة زوجته التي بدأت الكتابة في سن متأخرة نسبيا. وجاءت بطلتنا فلورنس إلى قرية هاردبروه الصغيرة في الريف الإنكليزي على الساحل الجنوبي الغربي، فقامت بكل ما معها من مال، بشراء عقار قديم قامت بإصلاحه وترميمه، وحوّلته إلى مكتبة لبيع الكتب. ما الذي دفع فلورتس إلى المجيء إلى هذه القرية تحديدا؟ ولماذا اختارت هذه التجارة التي تبدو غريبة على القرية؟ لا نعرف تحديدا، كما لا نعرف أيضا لماذا ستظل تتشبث بالحلم الغريب رغم كل ما تواجهه من إغراءات أولا، ثم من ضراوة في التصدي لها من جانب رموز مجتمع القرية المحافظ؟رجل شغوف بالكتب وسط عالم لا يقرأ مكتبة وقارئ واحد هناك قارئ واحد في هذه القرية مهتم بمعرفة الجديد من الكتب، هو مستر برانديش، لكن هذا الرجل الطاعن في السن لا يسلم من أقاويل كثيرة تتردّد بين سكان القرية، فهم يقولون إنه كان السبب في وفاة زوجته التي غرقت عندما كانت تقطف له ثمار الشيري من الغابة. لكنه سيعترف لفلورنس بأن زوجته انفصلت عنه منذ أكثر من نصف قرن وأنها مازالت على قيد الحياة، تعيش في لندن، لكنه أيضا غريب الأطوار، فهو لا يغادر منزله الفسيح أبدا، وعندما يعرف بأمر السيدة التي جاءت تفتتح مكتبة في القرية يرسل إليها رسالة يبدي اهتمامه بالحصول على أحدث الإصدارات. وتوالي هي إرسالها إليه، ثم تتعرف على فتاة صغيرة تدعى كريستين، هي ابنة الرجل الفقير الذي يسعى لاستعادة بهاء المنزل القديم، وتنتقل كريستين لكي تعمل مساعدة لفلورنس في إدارة أعمال المكتبة بعد أن أثبتت رغم صغر سنها، أنها تستطيع تدبير الأمور. وكريستين التي سترتبط بصداقة وطيدة مع فلورنس التي ستصبح مثلها الأعلى، هي التي سنعرف من خلال مسار الأحداث، أنها هي التي تروي القصة بصوتها، أي أن كل أحداث الفيلم تأتينا من خلال “فلاش باك” طويل بطول الفيلم، لكننا لا نشاهد كريستين سوى في النهاية بعد أن أصبحت امرأة. ولا تسير الأمور كما ينبغي، بل لا بد أن يظهر ما يعكر صفو الحياة، فهناك السيدة الأرستقراطية المتعجرفة فيوليت التي لا ترتاح لفكرة المكتبة، بل تريد أن تستولي على المنزل لكي تفتتح فيه مركزا للفنون، كما تقول. ومع مقاومة فلورنس للفكرة تستخدم هذه السيدة وزوجها كل ما في وسعهما لتدمير حلم فلورنس، بما في ذلك الوصول إلى أعضاء البرلمان واستصدار قانون خاص، إنها الحرب الطبقية التي تستخدم فيها الأرستقراطية المتزمتة التي ترفض الكتاب وتعادي الثقافة كل أسلحتها في مواجهة امرأة وحيدة، يتآمر عليها الجميع، لكن يظل لها صديق واحد فقط هو مستر برانديش. برانديش يصر على الوقوف بجانبها حتى لو أدى هذا إلى خروجه من منزله، والذهاب بنفسه إلى السيدة فيوليت لكي يطالبها بقوة التخلي عن هذا النوع من الشر، إنه مشدود عاطفيا إلى فلورنس، وهو يقول لها في اللقاء الثاني لهما إنه كان يتمنى لو قابلها في زمن آخر، هناك انجذاب واضح إليها، لكن الفيلم لا يتمادى لكي يجعل منه علاقة حب، بل يتوقف عند حد الإعجاب. لقد قرأ برانديش رواية “451 فهرنهايت” ووقع في غرامها، وقرأ الكتب التالية للكاتب نفسه راي برادبروي وأرسل يطلب من فلورنس أن تزوّده بكل ما يصدر من أعمال هذا الكاتب، ولا غرو فبرادبوري مدافع عن الحرية، هجّاء للتزمّت والهيمنة التي تقمع العقل والفكر، خاصة وأن روايته “451 فهرنهايت” تدور أيضا في عالم الكتب، وأبطالها هم “أناس الكتب” الذين يتغلبون على قرار الحاكم المجنون بحظر الكتب والقيام بحرقها، بحفظ الكتب سرّا، وهو ما صوّره ببراعة المخرج الفرنسي فرنسوا تريفو في فيلمه الذي حمل العنوان نفسه، أي “451 فهرنهايت” في عام 1966، وقامت بدور البطولة فيه جولي كريستي، وهي نفسها التي تعلق على فيلمنا هذا بصوتها، كما لو كان الفيلم امتدادا للفيلم القديم الذي يدافع عن الكتاب كوسيلة للمعرفة.أرستقراطية متزمتة تحارب الكتاب وتعادي الثقافة حوار أدبي فلورنس لم تكتف بالطبع ببرادبوري، بل جاءت بنسخ من رواية “لوليتا” لنوبوكوف لكي تثير اهتماما كبيرا غير مسبوق في القرية، وهي الرواية التي تتخذها أيضا السيدة فيوليت لكي تتهم المكتبة بنشر الإباحية والتحريض على هدم القيم والأخلاق، ألا يشبه هذا بدرجة كبيرة ما يحدث اليوم في بلادنا؟ بناء الفيلم كلاسيكي، يسير في توازن دقيق بين الأحداث والشخصيات، وتجسيد الشخصيات يتم عبر تقديمها أولا من خلال مشهد ما (نحن مثلا نتعرف على فيوليت في مشهد الحفل الذي أقامته في منزلها ودعت إليه من بين المدعوين فلورنس)، وهنا هي تبدو مهيمنة، قوية الشخصية، تخفي غلظتها وقسوتها بقشرة من النعومة المفتعلة على طريقة الأرستقراطية الإنكليزية، كما تلوّح بالتهديد، ولكن باستخدام كلمات تبدو مهذبة. والحقيقة أن اللغة المستخدمة في حوار الفيلم قد لا تكون ذات علاقة مباشرة بالمكان وطبيعة اللهجة التي يستخدمها السكان المحليون في الحديث، فهي لغة إنكليزية رصينة، هي أقرب ما تكون إلى اللغة الكلاسيكية، أي لغة الأدب، لكن الشخصيات يتم تعميقها أكثر في المشاهد التالية. وفي مشهدين من الفيلم تخرج كويكست عن أسلوبها التقليدي، فتجعل السيد برانديش يواجه الكاميرا التي تقترب منه تدريجيا وهو يردّد كلمات رسالة طويلة يوجهها لفلورنس، مع انتقال إلى فلورنس وهي تقرأ الرسالة. وفي مشهد ثان مصنوع بنفس الأسلوب يقرأ المحامي الخاص بالسيدة فلورنس رسالة كتبها إليها بخصوص القضية، وهو أسلوب أدبي أيضا يضاف إلى أسلوب استخدام الراوية من خارج الصورة، وكأن المخرجة أرادت أن تجسّد العمل كما كتبته المؤلفة. ولكن ماذا سيحدث؟ وما دور كرسيتين؟ وهل سترغم فلورنس أخيرا على مغادرة القرية وترك المنزل لكي يستولي عليه الأشرار؟ وما الذي سيحدث للسيد برانديش؟ هذه الأمور كلها ستأتي في السياق في الوقت المناسب تماما، من خلال بعض المفاجآت. عن التمثيل من أهم عناصر الفيلم دون أدنى شك، عنصر التمثيل: لدينا هنا عدد من الممثلين الذين يتمتعون بموهبة كبيرة على رأسهم الممثلة الإنكليزية إيميلي مورتمر (46 سنة) التي قامت ببراعة بأداء دور فلورنس غرين، بحزنها الدفين، وحلمها الخاص بعالم الكتب، وهي التي تروي كيف أن اللقاء الأول مع زوجها الراحل الذي كانت تحبه كثيرا كان في مكتبة، إن مورتمر تعبّر بعينيها وصوتها وتنتقل في المشاعر، من الإقبال والحب إلى التردّد والوجل والخوف، ولكن دون أن تفقد رقتها وجمالها وسحرها الغامض. كذلك تؤدي الممثلة باتريشيا كلاركسون ببراعتها المعهودة دور فيوليت، فهي تبدو في بعض المشاهد كما لو كانت تحاول أن تفهم هي نفسها، تلك الدوافع الغامضة القوية التي تدفعها إلى تحطيم حلم امرأة من دون أي سبب. إنها ليست بالقطع، نموذج المرأة الشريرة النمطية، بل يمكننا أن نلمح في تكوين شخصيتها بعض القلق والحيرة والمعاناة، لكنها في نهاية الأمر تبدو مدفوعة بقوى أكبر منها. وتضيف الممثلة الشابة أونور نيفيسي في دور كريستين نكهة خاصة إلى الفيلم بتلقائيتها وعبثها الطفولي، ثم تبدو بعد أن كبرت ونضجت وأصبحت تمارس العمل في مكان آخر، شخصية مستقلة يمكنها أن تواجه وترد وتكشف الشخص الانتهازي الذي يريد استغلال فلورنس، إنها لا تتخلى عن فلورنس، وعلى يديها سيأتي “فعل التطهير” في النهاية. ناقد سينمائي مصري
مشاركة :