بدأ الروائي عدنان فرزات من العتبة الأولى للسرد، في روايته "جمر النكايات" السير بموازاة التناص الديني، قائلاً: "أبي الذي عُرضت عليه شموس الذهب في يمينه، وفضة القمر في يساره، فآثر كنز الأخلاق". (ص 5)، ليؤكد الراوي من خلال سارده على أهمية سمو الأخلاق، ومكانة من يجسدها، ويترجمها فعلياً في حياته وتعاملاته اليومية. أخذت رحلة السرد الحكائي، فرزات إلى توصيف مدينة "دير الزور" التي تتكئ على عود الغَرَب النابت على ضفاف نهرالفرات، النهر الذي عافته الأسماك هي الأخرى، نتيجة تحول مصب النفايات إليه، إضافة إلى قلقها الدائم من الديناميت الذي يقض مضجعها كل صباح فيرميها على الشاطئ. هذه المدينة المولودة من رحم العجاج، تنز الدفلى حتى في أغانيها، وكأن الناي قَدَّ مواجع نغماته من حلق أهلها، توشحت بعباءة الحزن قبل أن توسم الكثير من الأمكنة في العالم بقهر التسلط، ورصد الراوي بلسان سارده كيف ذر المنتفعون رمال النسيان في عيونها، وتنكروا لملحها. وبقي الرواي في نفس النسق الدلالي في توصيف الحزن المتجذر في صمت جدرانها وأبوابها وكآبة شوارعها من خلال أنسنته لها، ولجأ بذكاء لتوظيف دلالة العتمة وانعكاساتها النفسية، بتكراره لثيمة "العتمة" المادية والروحية، "لون المساء، انسحاب الشمس، مساء النسّاك والرهبان". انسحاب الشمس تاركة للعتمة التمدد لتلتهم آخر خيوط الضوء، ليصبح الضوء حكاية شفاهية أو مدونة على الورق شبه منسية، ليجسد الحالة التراكمية للحزن الذي استوطن قلوب ساكني هذه المدينة قائلاً: "مساء مدينة ديرالزور موحش كعيني غزال تائه". (ص 12)، ويعتمد في تصويره على التصاق المقبرة وتمددها نحو بيوت المدينة، ليبدأ ليل معزوفة الآهات، والخوف، والقلق، وكأني به يسابق الزمن في رؤيته ليؤكد أن المقبرة ستصبح بفعل تمدد أخطبوط الفساد، في الحدائق والبيوت، كدلالة على تزايد أعداد الموتى مع كل فجر، وهذا ما جلبه الربيع الدموي لمدينته. في جمر النكايات صوّر فرزات مدينته بتفاصيلها الدقيقة، حتى كادت أن تكون صورة طبق الأصل مع أغلب المدن المسكونة بالقهر، والحاجة، والفجيعة، راصداً نَزَّ أوجاعها على مدار الساعة، ورصد العيون التي لا تطارد الإنسان فيها فحسب، بل حتى ظله لم يسلم من المطاردة، ونشر الكوابيس حتى في أحلامه، وأجزم بأنها تحصي كميات أنفاسه لتحاسبه عليها على مبدأ قانون المساءلة، "من أين لك هذا؟"، وزرع الخوف في أدق تفاصيل مرايا ذاته، كيلا يتكلم حتى لو تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه وحده، هذه هي بذور الخوف الممنهج، والمدروس، تجلى رصد الراوي بإشارته إلى أدواته ممن يرتدون النظارات السوداء ويتكلمون اللهجة الغريبة. هؤلاء هم زرّاع الخوف بحرفية عالية، والبسطاء يحصدون مواسم القلق والأرق صباح مساء، ويدفعون الثمن بصمتهم. رصد السارد حكاية انتخابية: (ذات صباح صيفي استيقظ أهل حي الكُجْلان على حدث غيّر مجرى أيامهم، كانت ثمة لافتة قُدَّت من كيس طحين أبيض معلقة على جدار سينما فؤاد المقابل لبيت "هداية" تماماً، وقد كُتِبَ فوقها عبارة" انتخبوا هداية"). ص 28 وسلط الضوء على أدق تفاصيل هذه التجربة، وتصوير حراك الطيف السياسي المجتمعي الناتج عن هذه العملية، بعين الكاميرا الواضحة، لا الخفيّة، ورصد ركض المرشحين لكسب ود الفقراء وشراء أصواتهم تارة بالوعود البراقة، وتارة بالمال، من خلال مدير الحملة الانتخابية المكلف من قبل كل مرشح، وما تحدثه هذه الحالة من انقسام في المجتمع نتيجة التسابق نحو المصالح الخاصة الآنية. وكشف السارد بمجهر كلماته وبشكل دقيق الحس الشعبي للرجل الشرقي وغيرته من خلال "كسار" قبضاي حارة الكجلان، ونقل كلامه للجموع الواقفة قرب منزل المرشحة "هداية"، حيث قال: (اسمعوني.. اسمعوني..هذه الحملة حملتنا، والحرمة أم منصور لها فضل على كل الحارة، ويجب أن نقف معها، وإذا فيكم رجل "خليه" يتمسخر عليها، وإذا في أحد يقول غير هذا الكلام يشوفنّي حاله). ص 30، حتى هذه الحالة من القمع التقطها السارد معتبرا إياها أمانة يجب أن تدوّن، وانتقل إلى رصد وتوثيق الهمهمات العالقة في سقف الحلق، نتيجة الخوف المتجذر منذ البدايات الأولى للإنسان من رهاب الأب وسلطته في صغره، ومن "العيون"التي ترصده في كبره حتى مماته، ومحاولة الهمهمات الخجولة الفرار نحو الآذان وهي ترتجف كعصفور داهمه البرد. (كلام كسار صحيح.. لا يا عمي ما لنا علاقة بالسياسة.. أي سياسة.؟). وتمكن السارد من التقاط الحوارات العامة والخاصة لبطلته "هداية" مذ قررت دخولها الانتخابات، بينها وبين مدير مكتب المحافظ، والمحافظ وأحد المرشحين، وما يحاك في الخفاء. ثم رصد برنامجها الانتخابي الذي يتعلق بقوت الناس، وتحسين مستوى معيشتهم، وكشف تزلف ورياء البعض لصناع القرار أو سماسرتهم، متعمدين تشويه صورة الشرفاء، بغية مكسب أو منصب آني. بعد انتهاء اللعبة الانتخابية (أرجعت السيدة "هداية" كفها دون أن تقطف نجمة، ثم غابت وراء الباب الحديدي الأسود. ص 104 ومن يومها لم يرها أحد، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي طرق فيه "كسار" الباب عليها، فأطلت ابنتها "ملكة" بهدوء، واضعة إصبعها على فمها بإشارة "اصمت" أرجوك لا تزعجها إنها نائمة منذ أسبوع). تعمد الروائي على سرد ما قالته ابنتها المجنونة "ملكة"، كدلالة على أن الحلم لم يمت، بل استسلم لاستراحة مؤقتة، وترك باب الأمل لأصحاب الضمائر الحية الصادقة مفتوحاً للوصول إلى مواقع صناعة القرار. اعتمد السارد على المزج بين اللغة الفصحى واللهجة العامية التي جاءت على لسان بعض الشخصيات في الرواية.
مشاركة :